المنشورات

يورجين هابرماس

يمثل يورجين هابرماس، مجدد مدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية في مرحلة مابعد الحداثة، وهو من أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني، إذ نقد الطابع التقني والوضعي القمعي للعقل في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية. ويعد أيضا، عند توم بوتومور، المفكر الأكبر لما بعد مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية الجديدة. و"على الرغم من قربه من الماركسية، فإنه يختلف مع ماركس في أمر أساسي: فهو يرى أن ماركس قد أخطأ في إعطائه للإنتاج المادي المركز الأول في تعريفه للإنسان في رؤيته التاريخية، باعتباره تطورا للأشكال والأنماط الاجتماعية.
ولهذا، يرى هابرماس أن التفاعل الاجتماعي هو أيضا بعد أساسي من أبعاد الممارسة الإنسانية، وليس الإنتاج وحده، وهو ما يوضح فلسفته التي تقوم على مفهوم الاتصال أو التواصل، وعلى أسبقية اللغة، وأولويتها على العمل.
والعقل الاتصالي عند هابرماس هو فاعلية تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت الواقع ويجزئه، ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه." (1)
وقد وجه هابرماس انتقادات صارمة للماركسية، فأعاد بناءها على أسس جديدة، وتسمى هذه المرحلة من مراحل مدرسة فرانكفورت بمرحلة مابعد الماركسية. وقد بدأ مقالاته التي كتبها في الستينيات بتقويم الوضعية العلمية والمنطقية على غرار أسلافه من مفكري معهد فرانكفورت. وقد ميز بين ثلاثة أنواع من المعرفة انطلاقا من منظور المصلحة التي تحققها للجنس البشري، في كتابه (المعرفة والمصالح البشرية) (1974 م)، وقد حصرها في مصلحة تقنية، ومصلحة عملية، ومصلحة تحررية.
وقد اعتبر هابرماس النموذج النفسي الفرويدي أداة صالحة للنظرية النقدية لتحقيق الثورة التحررية الإنسانية والمجتمعية. وقد أكد هابرماس أسبقية اللغة على العمل، وأكد أيضا ترابط اللغة والعمل الاجتماعي، حيث من الصعب فصل عنصر على آخر، وخالف بذلك رأي ماركس الذي كان يعتبر العمل هو الذي يخلق الإنسان. ويعتبر هابرماس اللغة هي التي تحقق الاستقلال الذاتي والمسؤولية. وبهذا، يكون هابرماس قد انتقل من نظرية المصالح المعرفية إلى نظرية اللغة والاتصال.
ويلاحظ أن هناك ارتباطا في فكر هابرماس بين التحليل الفلسفي ونظرية المجتمع، وإن تغيرت طبيعة هذا الارتباط بالتدريج. ففي كتابه (المعرفة والمصلحة البشرية)، كان هناك تماثل بين الأنواع الثلاثة من المعرفة مع قسمات رئيسة للحياة الاجتماعية، وهي: العمل، والتفاعل، والتسلط.
وانتقل في المرحلة الثانية إلى تقديم نظرية في الحق لاتضرب بجذورها في المجتمع، وإنما في اللغة بوصفها ميزة عامة للجنس البشري، وتستمر هذه الفكرة في أعمال هابرماس، وإن كان يشدد في الأخير على إعادة بناء النظرية في المجتمع. و" بالفعل، فإن هذا التطور يسجل ابتعادا أكثر عن نظرة مدرسة فرانكفورت في مرحلتها الأخيرة، وأصبح هذا التباعد أكثر صراحة بإعلان هابرماس أنه يتناول النظرية الاجتماعية بوصفه:" منظرا ماركسيا مهتما بمواصلة التعاليم الماركسية في ظل ظروف تاريخية متغيرة على نحو كبير". وهكذا، قدم هابرماس عناصر النظرية الماركسية المعاد بناؤها في عملين مهمين خلال السبعينيات، دار أولهما حول مشكلات الشرعية في المجتمعات الرأسمالية إبان مراحل تطورها الأخيرة، والثاني حول المادية التاريخية." (1)
وبناء على ماسبق، فقد حدد هابرماس أربعة أنواع من الأزمات التي تعانيها المجتمعات الرأسمالية المعاصرة: الأزمة الاقتصادية، وأزمة العقلانية، وأزمة الشرعية، وأزمة الدافعية أو أزمة التحفيز. ومن ثم، فقد حاول أن يقدم تقويما للتحول الذاتي للرأسمالية المتطورة. ومن هنا، فإن هابرماس يقدم قراءة تقويضية للمجتمع الرأسمالي، وقراءة تفكيكية للمجتمع البورجوازي المعاصر. و" في الظن أن المسألة الأكثر وضوحا، هي مدى ابتعاده عن أفكار مدرسة فرانكفورت الباكرة، حيث نجده قد سار، إلى حد ما، في عكس الاتجاه الذي بدأه أدورنو وهوركايمر، بإيلائه أهمية كبرى للنظرية الماركسية في المجتمع على نحو متميز، حين كرس مزيدا من الاهتمام لتحليل الهياكل الاقتصادية والسياسية، فيما نجد، على العكس، إشارات ضئيلة في أعماله لصناعة الثقافة.
وأكثر من هذا، فإنه لايطابق النظرية النقدية بالفكر الفلسفي في مواجهة العلم. فهو يقترح أن يوضع النقد بطريقة ما بين الفلسفة والعلم. وهذا المفهوم يتيح مجالا لعلم تجريبي عن المجتمع، على الرغم من أن ذلك لاينبغي أن يستنفذ إمكانية المعرفة الاجتماعية، ويجب إتمامه، أو وضعه، في إطار فلسفة تاريخ لها هدف سياسي.
وفي الوقت نفسه، توجد هناك أيضا استمراريات واضحة في النظرية النقدية من الثلاثينيات حتى الوقت الراهن.
وعلى الرغم من أن هابرماس لم ينسب إلى الفلسفة دورا بارزا للغاية، مثل ذلك الذي حازته في فكر أدورنو وهوركايمر، فإن واقع الحال بلا شك، وبخاصة في أعماله الباكرة، أنه كان لايزال مشغولا إلى حد بعيد بنقد الوضعية، وكان تأثيره ملحوظا بقوة كبيرة في المناظرات ما بعد النظرية حول الأسس الفلسفية للعلوم الاجتماعية." (1)
هذا، وقد مال هابرماس إلى البنيوية التكوينية بديلا لفلسفة التاريخ التي تبنتها مدرسة فرانفكورت إبان بدايتها، متأثرا في ذلك بجان بياجيه، ولوسيان كولدمان. وبعد ذلك، شرع في التمييز بين الرأسمالية المنظمة والاشتراكية البيروقراطية بوصفهما الشكلين الرئيسين للترشيد العقلاني للمجتمعات الحديثة. وبني هابرماس نظريته النقدية في علم الاجتماع على مرتكزين ضروريين هما: الفلسفة والعلم. بيد أن نظرية هابرماس غير تاريخية، ولاتعتني بالاقتصاد، كما هو حال النظرية الماركسية الأولى. و" نرى أن السمة الأكثر تميزا لنظرية ماركس، وإسهامها الأكثر أهمية في إقامة علم واقعي عن المجتمع، هي أنها لا تتعامل مع التفاعل الاجتماعي على وجه العموم، وإنما تتناول علاقة البشر بالطبيعة، والتفاعل فيما بين البشر في عملية الإنتاج، كاتجاهات سائدة ومولدة ومحددة لأشكال أخرى من التفاعل.
إن هذا هو المفهوم الذي منح الماركسية قوتها التفسيرية، والذي لايزال يمنحها هذه القوة حتى اليوم. لأنه مهما تكن الحاجة إلى إعادة بناء للنظرية الماركسية من أجل فهم المراحل المستجدة من تطور المجتمعات الحديثة بشكل ملائم، ولاسيما دورالدولة وطبيعة الصراعات الطبقية، فإنه لايزال ضروريا البدء من تحليل تنظيم الإنتاج وتسييره، سواء كان ذلك على شكل تسلط رأس المال المتركز في شركات وطنية أو متعددة الجنسية، أو تسلط الإدارة البيروقراطية للصناعة المؤممة." (1)
وعليه، فقد مر فكر هابرماس - حسب سامي خشبة- بمرحلتين رئيستين: مرحلة نقد العقل الوضعي الذي ساد الغرب مع نضج الرأسمالية، وتطور العلوم الإنسانية والتجريبية. والمرحلة الثانية التي انشغل فيها هابرماس ببناء نظرية اجتماعية قائمة على حركة تنويرية جديدة أو استئناف القديمة، وصياغة عقلانية تسترشد بالمنجزات العصرية لعلوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع، وعلوم اللغة والاتصال، وعلم النفس التربوي التطوري. (2)
ويمكن أن نحدد بدورنا مراحل أخرى لفكر هابرماس، ففي المرحلة الأولى، انتقد الوضعية العلمية والمنطقية. وبعد ذلك، انتقل إلى الحداثة ليعتبرها دليلا على العقل التنويري مقابل النزعات اللاعقلانية التقويضية والتفكيكية، وقد اعتبر الحداثة نموذجا للتحرر من كل أنواع السيطرة، حيث تتطابق النظرية والتطبيق، والمعرفة والمصلحة ... وركز أيضا على الاتصال بأنواعه باعتباره وسيلة لبناء المعرفة، وليس مجرد تبادلها، كما أشار إلى ذلك في كتابه (الاتصال ونشوء المجتمع) (1976). وقد أعاد للقيم والمعايير الاجتماعية أهميتها، وتبنى الكفاءة الأخلاقية مضمونا للاتصال الاجتماعي، في كتابه (نظرية الفعل الاتصالي) (1981 م). لكن هابرماس ينتقد (مابعد الحداثة) التاريخية ابتداء من عام 1985 م، حيث يرجع فشلها إلى اختلال التوازن بين القيمة المعنوية والقيمة المادية؛ مما حول عقلانية التنوير إلى حالة مرضية، وتلك هي الحال التي يصف بها تصور فرانسوا ليوتار وجان بودريار لما بعد الحداثة (1).










مصادر و المراجع :

١- نظريات علم الاجتماع

المؤلف: د. جميل حمداوي

الطبعة: الأولى 2015 م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید