المنشورات

النظرية النقدية في الميزان

من أهم إيجابيات النظرية النقدية أنها تنتقد التوجهات الرأسمالية بالتقويض والتشريح والتفكيك، وتنتقد النظريات العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والمجتمع والمصلحة الاجتماعية والقيم الأخلاقية، واعتبرت الإنسان موضوعا مشيأ، تتحكم فيه الحتميات الجبرية، وأنه لاقوة له ولافاعلية في صنع التاريخ أو تغيير المجتمع. ومن ثم، فقد جاءت النظرية النقدية لتصحيح أوضاع المجتمع، وتغييرها بتعرية المؤسسات الرأسمالية المهيمنة، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتطوير المفاهيم الماركسية في ثوب جديد، أو إعادة صياغتها مرة أخرى كما فعل هابرماس. وقد تحققت - فعلا- قطيعة إبستمولوجية بين النظرية النقدية القديمة والنظرية النقدية الجديدة.
ويمكن القول: إن مدرسة فرانكفورت قد مرت بمجموعة من المراحل، فقد انشغلت في الثلاثينيات والأربعينيات بالاشتراكية الوطنية، ومعاداة السامية، واهتمت في الخمسينيات بصناعة الثقافة، واعتنت في الستينيات بالحركات الثورية التحررية، ولاسيما ثورة الطلبة والأقليات العرقية، لتهتم في سنوات السبعين وبعدها بنظرية المعرفة، وإعادة النظر في كثير من الآراء الماركسية، وبناء أسسها من جديد، وصياغة نظرية ماركسية جديدة، والاعتناء بالقضايا السياسية والمجتمعية في ضوء النظرية النقدية. وقد ارتبط علم الاجتماع بالماركسية، ووضعت النظرية النقدية إبستمولوجيا بين الفلسفة والعلم، وخاصة مع مفكر التجديد هابرماس.
أما عن أهم الانتقادات الموجهة إلى مفكري مدرسة فرانكفورت اختلاف آرائهم من شخص إلى آخر، واختلاف توجهات مدرسة فرانكفورت لـ (مابعد الحداثة) عن مدرسة فرانكفورت في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين. كما استبعدت المدرسة اهتمامها بالتاريخ والاقتصاد إلى حد كبير، وانحرفت انحرافا كبيرا عن مبادئ الماركسية الكلاسكية كما عند الجيل الثاني من مفكري معهد فرانكفورت. وقد همشت النظرية النقدية الجديدة مع هابرماس الطبقة العاملة باعتبارها طبقة ثورية سياسية فاعلة ومغيرة. لذا، وصفت مدرسة فرانكفورت بأنها" ماركسية بدون بروليتاريا" (1). ومن هنا، " يبدو أن مفهوم مدرسة فرانكفورت عن تدهور، أو تلاشي الطبقة العاملة كقوة سياسية، قدم أساسا على فكرة طوباوية وخيالية عن الثورة، التي هي بأية حال الطريقة الوحيدة، أو الأكثر ماركسية، لتصور عملية الثورة الاجتماعية. وربما يكون هذا المفهوم قائما أيضا على انعكاس الخبرة الاستثنائية الأمريكية، الناجمة عن غياب طبقة عاملة منظمة سياسيا في المجتمع الأمريكي، على فكرهم، ولاسيما في حالة ماركوز." (1)
وفي هذا النطاق، يقول توم بوتومور، في كتابه (مدرسة فرانكفورت):"وقد أخفقت مدرسة فرانكفورت في الالتزام بالطريقة القاطعة التي اقترحها هوركايمر للنظرية النقدية، حين ذكر أنها لا تمتلك المفاهيم والأدوات التصورية القادرة على سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل." (2)
وفي الأخير، يمكن القول: إن النظرية النقدية في عمومها قد ابتعدت في مراحلها الأخيرة عن الماركسية التي انطلقت منها في بداياتها، بل أعلنت هذه النظرية فشلها، حينما اعتبر هابرماس أن نظرية (مابعد الحداثة) حالة مرضية؛ بسبب اختلال التوازن بين ماهو معنوي وماهو مادي.
وهكذا، نصل إلى أن النظرية النقدية هي قراءة ماركسية للمجتمع، ونقد للنظرية العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والتاريخ والمجتمع والأخلاق. ومن ثم، تعمل النظرية النقدية على تنوير المرء الملتزم، وتنويره عقلانيا وذهنيا، وانتقاد الاغتراب في المجتمع الرأسمالي، وإدانة فكرة التشييء والاستلاب والقمع الآلي. ومن ثم، تستند النظرية النقدية، في قراءتها للأدب والفن، إلى مفاهيم النقد المراكسي الكلاسكي أو الماركسية المعدلة في نظرية هابرماس. ويمكن أن نحدد مجموعة من المراحل التي قطعتها النظرية النقدية الجديدة، فكان هناك في البداية اهتمام بنقد الوضعية العلمية ومعاداة الفكرة السامية. وبعد ذلك، انتقل الاهتمام إلى المجال الثقافي مع ماركوز، ليتم الإنصات إلى الحركات الثورية الطلابية والأقليات الممضطهدة، لتتخذ النظرية النقدية توجها جديا مع هابرماس، حيث بدأت النظرية النقدية الجديدة تقدم تصورات مختلفة حول المجتمع متأرجحة في ذلك بين الفلسفة والعلم. كما أعيدت صياغة الماركسية من جديد على أسس علمية وسياسية واجتماعية مابعد حداثية، لتنتهي النظرية النقدية بالثورة على (مابعد الحداثة) نفسها، حينما وقع اختلال مجتمعي وحضاري بين القيم المادية والقيم المعنوية، فترتب على ذلك أن أصبحت (مابعد الحداثة) حالة مرضية مأساوية.













مصادر و المراجع :

١- نظريات علم الاجتماع

المؤلف: د. جميل حمداوي

الطبعة: الأولى 2015 م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید