المنشورات

السياق التاريخي للنظرية الإسلامية

ظهرت النظرية الإسلامية في السوسيولوجيا، في سنوات السبعين من القرن الماضي، رد فعل على الكتابات السوسيولوجية الوضعية (أوجست كونت، وإميل دوركايم، وسان سيمون، وهربرت سبنسر) من جهة، والكتابات السوسيولوجية الماركسية (كارل ماركس، وإنجلز، ولينين، وماوتسي تونغ، وبيير بورديو، وكلود باسرون ... ) من جهة أخرى.
وقد" ظهرت الدعوة إلى أسلمة العلوم الاجتماعية كبديل للتناقضات التي وقع فيها هذا الفرع من العلوم الإنسانية، وتخليصه من المضامين الإلحادية التي يحملها. وقد تفاوتت هذه الجهود على مستوى العمق والتحليل وعلى مستوى الوضوح والرؤية والتصور. ففي الحين الذي ظهرت فيه طائفة من البحوث الجادة والمخلصة والتي حاولت أن ترسم معالم  المنهج الجديد ظهرت محاولات أخرى تحمل نفس الشعار دون أن تكون على نفس المستوى من الجدة والوضوح. (1) "
وقد ظهرت دعوات جديدة لتأصيل علم الاجتماع في الوطن العربي؛ يمكن تصنيفها إلى ثلاث تجارب سوسيولوجية كبرى: تجربة علم الاجتماع العربي؛ وتجربة علم الاجتماع القومي؛ وتجربة علم الاجتماع الإسلامي.
والهدف من ذلك كله هو العودة إلى الذات العربية أو القومية، وتأصيل علم الاجتماع العربي، إما ضمن منظور عروبي، وإما ضمن منظور قومي، وإما ضمن منظور إسلامي، مع رفض المنطلقات المنهجية والفلسفية الغربية، ولاسيما آليات الكتابة السوسيولوجية الوضعية أو الماركسية. لذلك، سارع الباحثون إلى قراءة اجتماعية للتراث العربي؛ ودراسة الوضع الاجتماعي العربي الحالي في ضوء تراثنا؛ وخدمة الأهداف القومية للأمة العربية؛ وإغناء التراث الاجتماعي والإنساني بجهود الكتاب السوسيولوجيين العرب.
ومن أهم السوسيولوجيين الذين دافعوا عن علم الاجتماع القومي الباحثان المصريان أحمد الخشاب (2) في كتابه (التفكير الاجتماعي دراسة تكاملية للنظرية الاجتماعية)، وعبد الباسط عبد المعطي في كتابه (اتجاهات نظرية في علم الاجتماع) (3) ...
ومن جهة أخرى، يعد السوسويولوجي العراقي معن خليل عمر من المدافعين الغيورين عن علم اجتماع عربي، كما يتجلى ذلك واضحا في كتابه (نحو علم اجتماع عربي) (1).
هذا، وقد أكدت محاولة أحمد الخشاب" ضرورة العناية بدراسة النظرية الاجتماعية القومية على أن تكون فكرية عربية خاصة تنطق بمستخلصات التجربة التاريخية الحضارية، وتجسد المشخصات العقائدية والثقافية للأمة العربية، وتحدد مستويات تطلعاتها وأبعادها. ويقترح في هذا الصدد توجيه مزيد من العناية بدراسة النظرية الاجتماعية دراسة تحليلية نقدية، على أن نستشف لها أنموذجا إيديولوجيا يضمن إنماء العناصر الدافعة والمنشطة لديناميات الانتفاضات الاجتماعية المعاصرة من ناحية، وتعمل على تقويض الوضعية التعويقية التي كثيرا ما تستغل في الانتكاسات والارتدادات التي تمارسها الرجعية." (2)
ومن جهة أخرى، يتبنى الباحث المصري عبد الباسط عبد المعطي التوجه القومي في مجال السوسيولوجيا. وفي هذا، الصدد، يقول:" يقتضي تحرير علم الاجتماع في الوطن العربي السير في خطوات يمكن أن تضاف إليها أخريات منها:
(التحليل النقدي للتراث العالمي في علم الاجتماع، والتحليل النقدي للتراث العربي الاجتماعي في ضوء المسلمتين المذكورتين.
(إجراء دراسات مسحية تاريخية ومعاصرة في ضوء التوجه المقترح تكون غاياتها تحقيق التنمية الشاملة على أن يكون تركيزها الأساسي على عناصر هامة في الفهم والتفسير وصناعة التغيير متمثلة في دراسة التمايزات الاجتماعية، وبناء القوة، والثقافة القومية والعلاقة بالنظام الاقتصادي العالمي وغيرها من الأهداف المستقبلية كما هو في المسلمة الثانية.
(التنسيق بين البحوث السوسيولوجية القطرية والقومية. وهذا لن يكون دون معهد عربي متخصص، فمعظم الإنجازات السوسيولوجية العربية الجادة تمت حتى الآن بجهود فردية.
(ضرورة إعادة النظر في مقررات تدريس علم الاجتماع في الجامعات العربية بما يحقق الهدفين الأول والثاني، وبما يؤهل الدارسين لها فكرا وتدريبا وممارسة." (1)
أما الباحث العراقي معن خليل عمر (2)، فيدعو إلى الرجوع إلى التراث الاجتماعي العربي؛ لأن ذلك" سيمكننا من الحصول على القواعد الأساسية للحياة الاجتماعية العربية المعاصرة، ويغنينا عن تبني تراث المجتمعات الأخرى، واستخدامها في دراسة واقعنا الاجتماعي الحالي، فهو يختلف عن واقعنا في أصالته وبنائه. فالمجتمع العربي يتمتع بإرث فكري واجتماعي نابض وحي يعكس الحياة الاجتماعية بأصالتها العربية، والعلاقات الاجتماعية القرابية والدموية المتضمنة للرباط الرحمي العميق والمعتمد على العاطفة والوجدان، كانت ولاتزال سائدة وطاغية على المجتمع العربي خلال عدة قرون." (1)
ويعني هذا كله أن ثمة دعوات سوسيولوجية مختلفة في وطننا العربي، يمكن حصرها فيما يلي:
(دعوة إلى سوسيولوجيا غربية (علي عبد الواحد وافي- مثلا- (2)؛
(دعوة إلى سوسيولوجيا عربية (معن خليل عمر)؛
(دعوة إلى سوسيولوجيا قومية (أحمد الخشاب، وعبد الباسط عبد المعطي - مثلا-)
(دعوة إلى سوسيولوجيا إسلامية موضوعا أو منهجا أو رؤية (زيدان عبد الباقي، ومحمد محمد امزيان، وسامية مصطفى الخشاب، وزكي محمد إسماعيل ... )؛
(دعوة إلى سوسيولوجيا إنسانية وكونية، كما يبدو ذلك واضحا عند الباحث التونسي بيرم ناجي في مقاله (الإسلام وعلوم الاجتماع: محاولة في الدفاع عن العلم ضد - المنظور الثقافي الإسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي)، حيث يقول فيه:" إن الحلّ الوحيد لهذه المعضلة يكمن، حسب رأينا، في علمنة التفكير البشري، بحيث يكون القاسم المشترك هو النسبي، المفتوح، القابل للدحض إلخ، على أرضية حرية البحث العلمي والفكري. ويكون الجانب الإيماني جانبا شخصيا، أو جماعيا، يبقى "خارج" البحث العلمي، ويمارس سواء بشكل فردي أو جماعي بكل حرية، بشرط واحد، هو ألا يدعي المؤمن به، مهما كان مذهبه أو دينه، أنه من مظاهر قداسة معتقده الشخصي تبرير فرضه على الآخرين بالقوة، مهما كان شكل القوة المستعمل، بما في ذلك القوة الرمزية. إنه، اعتمادا على هذا المنظور، من غير المبرر تماما، حسب رأينا الدعوة لأسلمة علم الاجتماع، مثلما هو غير مبرّر الدعوة إلى تهويده أو تنصيره (جعله مسيحيا) أو غير ذلك.
إن العلم كوني أو لا يكون، وإذا كانت الظواهر الاجتماعية، على عكس الظواهر الطبيعية، ليست فقط كونية، بل كذلك قومية ودينية ... فذلك لا يبرر الدعوة إلى الأسلمة أو التعريب، بل في رأينا يحتّم التحذير أكثر من مثل هذه العملية. إن مخاطر تعريب العلم أو أسلمته، حتى لو كان علما إنسانيا أو اجتماعيا كعلم الاجتماع، تتمثل في إفقاده صفته العلمية وتحويله إلى خطاب قومي أو ديني.
إن "علم الاجتماع الغربي "، كثيرا ما تأثر بهذه العملية فسقط في المركزية الثقافية. ومقابل ذلك يفترض في علماء الاجتماع العرب الذين عانوا ويعانون من تحّيز غير علمي لبعض زملائهم في الغرب، ألا يردّوا الفعل عبر تحيّز عروبي أو إسلاموي لعلومهم، فإن فعلوا ذلك يكفون عن ممارسة العلم ويدخلون في خطاب إيديولوجي، سياسي أو ديني غالبا. وإذا كان هذا الأمر ينطبق على علم الاجتماع عموما، فمن باب التأكيد أنه ينطبق أكثر على علم الاجتماع الثقافي، حيث خصوصيات الشعوب بادية للعيان "دون عناء تفكير وبحث".إن هذا الأمر لا يعني الدعوة إلى إهمال الخصوصية. بالعكس، لا بد لأي عمل علمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية أن يحلّ مسألة العلاقة بين الكوني والخصوصي أو أن ينتهي كعلم. (1) "
ويعني هذا كله أن ثمة دعوات سوسيولوجية مختلفة، تنطلق الواحدة منها من تصورات نظرية ومنهجية وفكرية معينة، وتحاول أن تصل إلى نتائج معينة، وتدعي في ذلك العلمية والحق والصواب، على الرغم من أن الحقيقة تبقى نسبية ليس إلا.











مصادر و المراجع :

١- نظريات علم الاجتماع

المؤلف: د. جميل حمداوي

الطبعة: الأولى 2015 م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید