المنشورات

إنَّ الشقي وافد البراجم.

الشقاء: العسر والشدة، يمد ويقصر. يقال: شقي الرجل بالكسر، يشقى، شقاوة بفتح الشين وكسرها، وشقا وشقاء وشقوة بالفتح والكسر أيضاً فهو شقي. والوافد: القادم؛ يقال وفد علي يفد أي قدم فهو وافد وهو وفد وأوفاد ووفود. ومن الأول قوله تعالى:) يومَ نحشرُ المتقينَ إلى الرحمنِ وفداً (. والمفسرون يقولون: وافدا أي راكبا لأن الوفود سراة الناس. والبراجم: قوم من أولاد حنظلة بن مالك بن عمرو بن تميم.
المثل لعمرو بن هند وهو عمرو بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي بن أخت جذيمة الأبرش ملك الحيرة. وكان سبب ذلك أنَّ أخاة اسعد بن المنذر كان في بني دارم مسترضعا في حجر زرارة بن عدس الدارمي ويقال في حجر حاجب بن زرارة. فلما شب خرج يوما يتصيد فعبث كما تعبث الملوك لمّا انصرف من صيده وبه نبيذ، فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله. وقيل مرت به ناقة كوماء فعبث بها ورمى ضرعها، فشد عليه ربها سويد، أحد بني عبد الله بن دارم فقتله، ثم هرب فلحف بمكة وحالف قريشا. وكان زرارة بن عدس من خواص عمرو بن هند. وكان عمرو قبل ذلك قد غزا قوما من العرب ومعه زرارة فأخفق. فلما انتهى عبد رجوعه إلى جبل طيء قال له زرارة: أيّها الملك! إنَّ رجوع مثلك إذا غزا بغير شيء لعظيم، وها هي طيء بجنبك. فمال عليها أبن هند فقيل وأسر. فاضطغنت طيء من ذلك على زرارة وجعلوا يتربصون به فرصة، فلما بلغهم إنَّ دارما قتلت اسعد وكتم عمرو بن هند ذلك في نفسه،قال عمرو بن ملقط الطائي ينبه عمرا للنهوض إلى أثره ويغريه بقتل زرارة:
من مبلغ عمرا بأن ... المرء لم يخلق صباره؟
ها إنَّ عجزة أمه ... بالسفح أسفل من أوراه
تسفي الرياح خلال ... كشحي هو قد سلبوا إزاره
فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زرارة!
فوافى هذا الشعر عمرا وزرارة عنده. فقال له عمرو: ما يقول هذا؟ فقال: كذب قد علمت عداوتهم أي فيك. قال: صدقت! فلما أمسى زرارة، هرب ولحق بقومه. فغزاهم عمرو بن هند وحلف ليحرقن منهم مائة بأخيه. فلما نزل بأوارة، وقد نذروا به، تفرقوا عنه هربا. فتتبعهم حتى قبض تسعة منهم وحرقهم بالنار. فأراد إنَّ يكمل العدة بعجوز منهم. فلما أمرها قالت: إلاّ فتى يفدي هذه العجوز بنفسه؟ ثم قالت: هيهات! صار الفتيان حمما. ومر وافد البراجم، فاشتم رائحة الشواء ولم يشعر بالأمر، فظن أنَّ الملك قد اتخذ طعاما. فأقبل نحوه تخب به راحلته لينال منه، حتى وقف على عمرو فقال له: من أنت؟ قال: أبيت اللعن! أنا وافد البراجم. فقال عمرو: إنَّ الشقي وافد البراجم. فذهبت مثلا. ثم أمر به فقذف في النار.
يضرب هذا المثل في الإنسان يجلب الحين على نفسه وهو من باب قولهم: بحث عن حتفه بظلفه، وسيأتي. وبهذه الواقعة سمي عمرو بن هند محرقا لتحريقه بني تميم. وقيل سمي محرقا لعتوه وفساده في الأرض فكأنه حرقها. وقيل لتحريقه نخل مللهم، وهو موضع بالبحرين ويسمى أيضاً مضطرب الحجارة لشدة وكأته. وكان جده امرء القيس أيضاً فيما يزعمون يسمى محرقا، وأباه يعني الأسود بن يعفر بقوله:
ماذا أؤمل بعد آل محرقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إيادِ
أرض الخورنق والسدير ويارقٍ ... والقصر ذي الشرفات من سندادِ
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعادِ
وفي هذه القصة يقول الأعشى:
ويكون في الشوفِ الموازي ... منقراً وبني زراره
أبناءُ قومٍ قتلوا ... يوم القصيبة والأواره
فجروا على ما عاودوا ... ولكلٍّ عاداتٍ أماره
والعود يعصرُ ماؤه ... ولكلٍّ عيدانٍ عصاره
وقال جرير يعير الفرزدق:
أين الذين بنار عمرو حرقوا؟ ... أم أين اسعد فيكم المسترضع؟
وقال أيضاً:
وأخزاكم ربي كما قد خزيتم ... وأدرك عماراً شقي البراجم
وبها أبلغ ليك بني تميمٍ ... بآية ما يحبون الطعاما
وقال آخر:
إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ ... فسرك أن يعيش فجئ بزادِ
بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفف في بجادِ
تراه ينقب البطحاء طرا ... ليأكل رأس لقمان بن عادِ
ودخل بعض أذكياء بني تميم، ويقال هو الأحنف، على بعض ملوك قريش، ويقال هو معاوية رضي الله عنه، فقال له الملك: ما الشيء الملفف في البجاد؟ قال السخينة، يا أمير المؤمنين. أراد الملك أنَّ يعيره بالطعام وأشار إلى الشعر السابق وأراد التميمي تعييره بالسخينة، وهي طعام، وكانت قريش تعير بها. ويشبه هذه القصة في تميم أيضاً ما يحكى أنَّ أعرابيا وقف على الفرزدق فقال له الفرزدق: ممن أنت؟ فقال: من فقعس. قال: كيف تركت القنان؟ قال: تركته يساير لصاف.
أراد الفرزدق قول الشاعر:
ضمن القنان لفقعس سوءاتها ... إنَّ القنان بفقعس لمعمرُ
وأراد الفقعسي بقوله يساير لصاف قول آخر:
وإذا تسرك من تميم خصلةٌ ... فلما يسوءك من تميم أكثرُ
وقد كنت أحسبهم أسود خفية ... فإذا لصاف تبيض فيها الحمر
أكلت أسيد والهجيم ودارم ... أير الحمار وخصيته العنبر
ذهبت فشيشة بالأباعر حولنا ... سرقا فصب على فشيشة أبجر
والقنان، بفتح القاف، جبل لبني أسد، وهو الواقع في قول زهير:
جعلن القنان عن يمين وحزنه ... ومن بالقنان من محل ومحرم
ولصاف، بكسر اللام وبفتحها، معربا ومبنياً على الكسر، جبل لتميم، وهو الواقع في قول النابغة:
بمصطبحات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالاً يسرهن التدافع
ونحوه ما حكى الجاحظ قال: دخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلالي، وهو عامل على أرمينية، وقد بات بقرب غدير فيه ضفادع. فقال عبد الله: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها. فقال المحاربي: اصلح الله الأمير! إنّها أضلت برقع لها، فهي بغائه. أراد الهلالي قول الأخطل:
تنق بلا شيء شيوخ محاربٍ ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في الظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد المحاربي قول الشاعر:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولأبن هلال برقع وقميص
ومما شبه هذا في الذكاء والفطنة ما حكي عن بعض الناس إنّه قال: قعدت على جسر بغداد، فمرت امرأة بارعة الجمال، فائقة الكمال، من الرصافة إلى الجانب الغربي. فاستقبلها شاب ذهب نحو الرصافة، فقال الشاب: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري: ولم يقف واحد منهما، بل مر كلٌ لحاجته،مشرقاً ومغرباً قال: فتبعت المرأة، فقلت لها: إنَّ لم تقولي ما قلتما. فضحكت فقالت: أراد الشاب قول علي بن الجهم:
عيون المهى بين الرصافة والجسر ... جلب الهوى من حيث ادري ولا ادري
وأردت أنا قول أبي العلاء المعري:
فيا دارها بالحزن إنَّ مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
فانصرفت وتركتها. وبعضهم ينكر في قصة عمرو بن هند التحريق، ويقول إنّه قتل تسعة وتسعين وإكمال العدة بوافد البراجم، وينشد قول الجرير: أين الذين بنار عمرو قتلوا؟ وفي القصة اختلاف وطرق، وسنعيدها في الباء إنَّ شاء الله تعالى على وجه آخر للحاجة إليها هناك.













مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید