المنشورات

أي الرجال المهذبُ؟

أخذناها من قول النابغة يعتذر للنعمان:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمهُ ... على شعثٍ أي الرجال المهذبُ؟
والتهذيب: التصفية والتنقيح؛ والرجل المهذب: المطهر الأخلاق. والاستفهام للنفي أي لا رجل يكون أبدا حسن الفعال طاهر الخلال محمود الخصال إلاّ من عصم كقول الآخر:
من ذا الذي ما ساء قط؟ ... ومن له الحسنى فقط؟
وإذ بينا يقال هذا البيان على تيسر من الأمثال النثرية فلنلم بشيء من الأمثال الشعرية أو ما يكون جاريا على منهاجها وماضيا على أدراجها قال الحماسي أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدح عبد الله بن جدعان القريشي التيمي:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك؟ إنَّ شيمتك الحياءُ
وعلمك بالحقوق وأنت فرعٌ ... لك الحسب المهذب والسناءُ
وأرضك كل مكرمةٍ بنتها ... بنو تيمٍ وأنت لها سماءُ
خليلٌ لا يغيره صباحٌ عن الخلق الكريم ولا مساءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناءُ
تباري الريح مكرمة ومجداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاءُ
والذي يتمثل به كثيرا منه قوله: أأذكر حاجتي. . البيت، وقوله خليل لا يغيره. . البيت، مع الذي بعده وقد يقرن بينهما. والمضرب واضح. وكثيرا ما ينشد السادات الصوفية: كريم ما يغيره صباح، الخ، يتمثلون بذلك عند التنبيه على أنَّ التعرض لمواهب المولى جلة كلمته، ومزيد منحه الجميلة ومنه الجزيلة بطريق الثناء والشكر والذكر وكثرة التحميد والتبجيل والتعبد والمجاهدة، أبلغ من التعرض لذلك بمجرد الدعاء طلبا لنيل حاجة. وهذا ورد في كلام الشارع صلوات الله وسلامه عليه: أفضل الدعاء الحمد لله! وقال تعالى:) لئن شكرتم لأزيدنكم (. وهذا مقام يبين في محله. وقال أبو نواس الحسن بن هانئ:
دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداءُ
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجرٌ مسته سراءُ
حتى قال:
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانت تحل بها هندٌ وأسماءُ
فقل لمن يدعي في الحب معرفةً ... عرفت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
والذي يتمثل به منها كثيرا الشطر الأول والأخير. أما الأول فقد أخذه أبن قلاقس فقال:
فدعي الملامة في التصابي واعلمي ... أنَّ الملامة ربما تغريني
واكثر الشعراء في هذا النحو وكلهم مقتبسون منه حائمون عليه. فمن ذلك قول أبن شرف:
قل للعذول: لو أطعت على الذي ... عاينته لعناك ما يعنيني
أتصدني أم للغرام تردني ... وتلومني في الحب أم تغريني؟
دعني فلست معاقبا بجنايتي ... إذ ليس دينك لي ولا لك ديني
وقول الآخر:
وما عذولي ناهيا عنكم ... لكنه بالصبر أمارُ
قال: اسلهم إن لم تطق هجرهم ... قلت له: النار ولا العارُ
وقول الآخر:
يقول لي العاذل في لومه ... وقوله زورٌ وبهتانُ
ما وجه من أحببته قبلةٌ ... قلت: ولا قولك قرآنُ
وقول الآخر:
يا عاذلي ليس مثلي من تفنده ... وليس مثلك مأمونا على عذلي
ما دمت خلواً تنفك متهماً ... أعشق وقولك مقبولٌ عليَّ ولي
وقوله:
من منصفي من عاذل جاهل ... يخون باللوم لمن لا يخونُ
إن قلت: ما نصحك إلاّ أذىً ... قال: وما عشقك إلاّ جنونُ
وقوله:
إنَّ قوما يلحون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا
سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وأعطوا خبيثا
وقول الآخر:
أسرفت في اللوم ولم تقتصر ... وزدت في لومك يا ذا العذول
قد رضيت نفسي بمحبوبها ... وإنّما المولى كثير الفضول
وقول الآخر:
تعرض لي اللاحي وجاء يزورني ... وزجرف لي زور الكلام بمينهِ
وقال: اسل عن هذا وعد عن غرامه ... فقلت له: هذا الفضول بعينهِ
وقول الآخر:
زعموا أنني هويت سواكم ... كذبوا ما عرفت إلاّ هواكم
قد علمتم بصدق مرسل دمعي ... فسلوه إن كان قلبي سواكم
قال لي عاذلي: متى تبصر الرشد ... وتسلو؟ فقالت: يوم عماكم
وقول ابن سناء الملك:
أيا عاذلي فيه لمّا رآه ... لئن كنت أعمى فإني أصم
وهبك أبا ذر هذا الملام ... فأني أبو جهل ذاك الصمم
وقوله أيضاً:
وصفتك واللاحي يعاند بالعذل ... فكنت أبا ذر وكان أبا جهلِ
له شاهدا زور من النهي والنهى ... عليك ومن عينيك لي شاهدا عدلِ
وقول آخر:
وبي عاذلٌ يغري إلى الجهل لم يخل ... بأني في دعوى الغرام أبو ذرِّ
والمراد بهذا الصدق في الهوى. ومن هذا النمط قول آخر:
وشادنٍ مبتسمٍ عن حبب ... مورد الخد مليح الشنب
يلومني العاذل في حبه ... وما درى شعبان أني رجب
وذلك لأن شعبان عند العرب يسمى العاذل ورجب يسمى الأصم. ومما نحن فيه قول الآخر:
إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصخت إلى الواشي فلج بها الهجرُ
أشار بالشطر الأول إلى أن العذل يغريه. وقول البوصيري:
محضتني النصح لكن ليس أسمعه ... إنَّ المحب عن العذال في صممِ
ويقرب منه قول عفيف الدين التلمساني:
ولي على عاذلي حقوق هوى ... عليه شكري ببعضما يجبُ
لام فلما رآه هام به ... فكنت في عشقه أنا السببُ
وقول الآخر:
أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبلها رآهُ
فقال لي: لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواهُ
قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواهُ
فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاهُ
ومن ذلك قول حفص العليمي:
أقول لحلمي لا تزعني عن الصبا ... وللشيب لا تذعر عليَّ الغوانيا
طلبت الهوى العذري حتى وجدته ... وصيرت في نجدٍ به ما كفانيا
وقول الخزاعي:
هددت بالسلطان فيك وإنّما ... أخشى صدودك لا من السلطانِ
وقول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذةٌ ... حبا لذكرك فليلمني اللومُ
وأما بيته الأخير فينشده المتمثلون اليوم:
قل للذي يدعي علما ومعرفة ... عرفت شيئا وغابت عنك اشياءُ
عجيبة: حكي أنَّ المفضل الضبي قال له الرشيد - دلني على بيت أوّله أكثم أبن صيفي في أصالة الرأي وجودة الوعظة وآخرها بقراط في معرفة الدواء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد هولت علي. فقال: هذا قول أبي نواس: دع عنك لومي. وسأل حامدبن العباس عليَّ بن عيسى الوزير فقال له: ما دواء الثمل وقد علق به؟ فأعرض عنه الوزير وقال: ما لنا وهذه المسألة؟ فخجل حامد وإذا بقاضي القضاة أبي عمر قد ورد عليهم فلما قعد سأله حامد عن ذلك فقال القاضي: قال الله تعالى:) وما آتاكمُ الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية وقد فال في ذلك:
وكاسٍ شربت على اذة ... وأخرى تداويت منه بها
ثم تلاه أبو نواس فقال في ذلك:
دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداءُ
فأشرق وجه حامد حينئذ وقال للوزير: ما ضرك يا بارد لو أجبت ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في الجواب بقول الله تعالى وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الفتيا وأدى المعنى وتبرأ من العهدة؟ فكان خجل الوزير من حامد بهذا الكلام أكثر من حامد منه لمّا ابتدأه بالمسألة.
قلت وهذا الكلام من القاضي كان على مجاراة أهل هذه الصنعة وتبيان ما ثبت في نفس الأمر من بعض منافع الخمر ولم يتعرض للحكم الشرعي من حرمة التداوي بها،لعلمه إن السائل يعرف ذلك، وإلاّ فكان الواجب أن يستدرك عقب كلامه بما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تداوى بالحرام، والله اعلم.
واعلم أن التصامم عن العذال قد تقدم في كلام الشعراء كثيراً قبل أبي نواس، كقول زهير في الجود:
وأبيض فياضٍ يداه غمامة ... على معتفيه ما تغلب نوافله
بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله
يفدينه طوراً وطوراً يلمنه ... وأعيى فما يدرين أين مخاتله
فأقصرن منه عن كريم مرزءٍ ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله
غير إنَّ أبا نواس لم يكتف العذل ضائعاً، حتى جعله ناجعاً، في عكس المطلوب، ونقيض المرغوب. ولم يحضرني الآن أسبق بهذا أم لا. وقال الشاعر:
ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له: ... إياك، إياك أن تبتل بالماء!
وهو مثل مشهور يضرب عند إلزام الشخص ترك ما لا محيص له عنه عند وجود سببه، أو ارتكاب مالا قدرة عليه. ومنه التكاليف الشرعية عندنا معشر الاشاعرة عند النظر إلى التحقيق وباطن الأمر، إلاّ أنا نجوز في حق الملك الحق تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من غير قبح في شيء من ذلك، بل حسن جار على وفق الاختيار، وتصرف من له الاقتدار، ولا سيما بحسب الظاهر. ويقرب من هذا المعنى قول بعض الشعراء في امرأة:
سكت فقالت: قد سكت عن الحق ... ففهت فقالت ما دعاك إلى النطق؟
فأومأت هل من حالة بين ذا وذا؟ ... فقالت: وذا الإيماء أيضاً من الحمق
فلم أرلي إذ حلت الغرب راحةً ... من الشر إلاّ في المسير إلى الشرق
فلما أتيت الشرق ألفيتها به ... وقد قعدت بي منه في أضيق الطرق
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها؟
وقال الآخر:
من غص داوى بشراب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء؟
ومضربه واضح. وفي معناه قول الأول:
لو بغير الماء حلقي قد شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وقول الآخر:
إلى الماء يسعى من يغص بأكله ... فقل: أين يسعى من يغص بالماء؟
وقول الآخر:
فكيف نجيز غصتنا بشيءٍ ... ونحن نغص بالماء الشروب؟
وقول الآخر:
فلو كان هذا الحكم في غير ملككم ... لبؤت به أو غص بالماء شاربه
وقول الآخر:
مصاحبة المنى خطر وجهلُ ... وكم شرقٍ تولد من زلالِ!
وقول أبن حبوس:
مضى الكرماء صانوا ماء وجهي ... بما بذلوه عن ذل السؤال
وها أنا بعدكم في الناس ابغي ... كريماً يشتري شكري بمالِ
أرى الاكدار يشرق شاربوها ... فوا شرقي من الماء الزلال!
وقول الآخر:
إني لأذكركم وقد بلغ الظمأ ... مني فأشرق بالزلال الباردِ
وأقول ليت أحبتي عاينتهم ... قبل الممات ولو بيوم واحد!
وقول الآخر:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال الباردِ
وقول الآخر:
كنت من محنتي أفر إليهم ... فهم محنتي فأين الفرار؟
وقول أبن سناء الملك:
أموت غراما حين احرم وصل من ... هويت وأحيا فرحة حين ارزق
وإنَّ الفتى يحيا بما قد يميته ... فبالماء يحيا وهو بالماء يشرقُ
وقال البحتري:
تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى ... بماء الربى من بات بالماء يشرقُ
وهو مخالف لمّا قبله باعتبار: فإنَ الأول ناظر إلى جنس الماء وإنّه يكون سببا للحياة والموت باعتباري مساغه والشرق به، وتنظير الأحبة بذلك باعتبار وصالهم وفراقهم صحيح. والثاني ناظر إلى من وقع له الشرق بالماء وإنّه لا ينتفع بالماء لمّا مر في الأناشيد وهو صحيح ولكن التنظير خطأ إلاّ أن يريد الأخبار عما وقع له هو من حصول الوحشة ممن يترقب منه الأنس ولم يلاحظ ما قال أبن ذريح:
تداويت من ليلى بليلى من الهوى ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمرِ
أخذه من قول الأعشى السابق:
وكأس شربت على لذةٍ ... وأخرى تداويت منها بها
وهذا كله وفق قول أبن سناء الملك. وقال الآخر:
يا قوم قلبي عند زهراء ... يسمعه السامع والرائي
لا تدعني إلاّ بيا عبدها ... فانه أشرف أسماءِ
يتمثل بالبيت الثاني. وقد تمثل به العلماء في قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، واختياره أن يكون عبدا وهو أشرف الأمرين وأجل فإنَ الإضافة إلى الشرف تفيد شرفا. وأي شرف ومجد وعظمة وجلال وراء عظمة مالك الملك الحق تعالى! وأي منزلة أعظم من الانتساب إليه؟ وقال الآخر:
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاءُ
وقبله:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه؟ ... تأمل فيك ما صنع العاءُ!
وتمثل صاحب التشرف بهذا الشعر حين ذكر أنَّ أبا الفضل أبن النحوي دخل فأساً، فلما ظهر أصلب القاضي أبن دبوس منه غيرة وآذاه. فلما أزمع أبو الفضل الخروج قطع تلك الليلة التي يخرج في صبيحتها بسجدة دعا في آخرها وقال: اللهم عليك بابي دبوس! فأصبح القاضي ميتا. وقال الآخر وهو معنى رشيق، وكان عتب على الصمت:
قالت الضفدعة قولاً ... فسرته الحكماءُ
في فمي ماءٌ وهل ينطقُ ... من في فيه ماءُ؟
وقال ذي الرمة:
أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... واحفظ ثيلبك ممن يشرب الماءَ
قومٌ يرون عما في صدورهم ... حتى إذا استحكموا كانوا هم الداءَ
يشمرون إلى انصاف سوقهم ... هم اللصوص وقد يدعون قراءَ
ولهذا الشعر قصة وهي أنَّ ذا الرمة اجتمع هو وإسحاق بن سويد العدوي في مجلس. فأتيا بطعام فطعما، وأتيا بنبيذ فشرب ذو الرمة وأبى إسحاق أن يشرب. فقال ذو الرمة: أما النبيذ فلا يذعرك شاربه الأبيات. وقال إسحاق مجيبا له:
أما النبيذ فقد يزري بشاربه ... ولن ترى شاربا أزرى به الماءُ
الماء فيه حياة الناس كلهم ... وفي النبيذ إذا عاقرته الداءُ
يقال هذا نبيذي يعاقره ... فيه عن البر والخيرات إبطاءُ
وفيه إن قيل مهلا عن مصممة ... وفيه عند ركوب الإثم إغضاءُ
ومثل قول أبن الرومي قول الآخر وبنسب لابن الرومي في الفقهاء:
أذيابا بدت لنا ... في ثياب ملونة
إحلالاً وجتم ... أكلنا في المدونه
وقوله أيضاً:
إلاّ إنّما الدنيا ميتةٍ ... وطلابها مثل الكلاب الموامسِ
وأعظمهم ذماً لها وأشدهم ... لها شغفاً قومٌ طوال القلانسِ
ومثل قول إسحاق بن سويد في النبيذيين قول الآخر:
بلوت النبيذيين في كل بلدةٍ ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظُ
إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظُ
عكاظية لا قدس الله روحها ... وما ذكرت في الصالحين عكاظُ
وسيأتي كل من الأمرين مستوفي إن شاء الله تعالى. وقال الآخر:
إذا انقطع الرجا من كل حي ... ففي الله الكفاية والرجاءُ
سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناءُ
وقد جمع بين الممدوح وهو الرجاء وبين مد المقصور وهو الغناء بكسر الأول ضد الفقر.
وقال عدي بن الرقاع:
وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضنا به نظري إلى الفقراءِ
بل ما رأيت جبال أرض تستوي ... فيما عسيت ولا نجوم السماءِ
كالغيم فيه وابلٌ متتابعٌ ... غدقٌ وآخر لا يجود بماءِ
والحر يورث مجده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياءِ
ومثل البيت الأول قول الحماسي:
ولمّا أبى إلا جماحا فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا اهلِ
تسلى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولا تسلي
وقال الآخر:
لم ألق بعدهم حياً فأخبرهم ... إلاّ يزيدهم حباً الي همُ
وقال الحماسي عدي بن الرعلاء:
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنّما الميت ميت الأحياءِ
إنّما الميت من يعيش كئياً ... كاسفا باله قليل الرجاءِ
وقال الآخر:
يوما بحزوي ويوماً بالعقيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء
وقال الحماسي قيس بن الخطيم الأنصاري:
وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلاّ عناءُ
وبعض خرئق الأقوام داءٌ ... كداء البطن ليس له دواءُ
يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلاّ ما يشاءُ
وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاءُ
فلا يعطي الحريص غنى لحرصٍ ... وقد ينمى على الجود الثراءُ
غني النفس ما عمرت غني ... وفقر النفس ما عمرت شقاءُ
وليس بنافع ذا البخل مالٌ ... ولا مزر بصاحبه السخاءُ
وبعض الداء ملتمس شفاه ... وداء النوك ليس له شفاءُ
وقال الآخر من شعراء الحماسة:
وأرض عن مطامع قد أراها ... وأتركها وفي بطني انطواءُ
فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرء ما استحيى بخير ... ويبقى العود ما بقى اللحاءُ
وقلت أنا في أمر حدث:
تعلم أنَّ شر الأصدقاء ... صديق لا يدوم على الإخاء
متى ما تلقيه أرضاك بشراً ... وليس إذا تغيبت ذا وفاء
لعمرك ما الوداد سوى وداد ... يدوم على التداني والتنائي
وفي الأتراب والترب المجلي ... أخاك وفي المسرة والبلاء
وليس أخوك من يبدي ودادا ... بوجهك طاويا مكنون داء
فإن أدبرت أتبعك أعتضاضاً ... بنابيه وعاد من العداء
وقال الآخر:
إنَّ الذي وهو مثر لا يجود حرٍ ... بفاقة تعتريه بعد إثراء
قوله: وهو مثر جملة حالية فصل بها بين الموصول وصلته وذلك قيل؛ والمثري: الغني. وقال الحماسي قيس بن الخطيم الأنصاري:
وكنت أمرء لا أسمع الدهر سبه ... أسب بها إلاّ كشفت غطاءها
متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي إلاّ قد قضيت قضاءها
يريد: إلاّ قضيتها قضاء فأوقع القلب كما ترى. وقال الآخر:
أقول لمقلتي لمّا التقينا ... وقد شرقت مآقيها بماء
خذن اليوم من نظري بحظ ... فسوف تكونين إلى البكاء
ومثله قول الآخر:
ترفق بدمعك فاستبقه ... فبين يديك بكاءٌ طويل
وقال البحتري بن المغيرة بن أبي صفرة وكان المهلب بن أبي صفرة قد استعمل يزيد على حرب خراسان والمغيرة على خراجها ولم يوله هو شيئا. فكتب إليه:
أقرأ السلام على الأمير وقل له: ... إنَّ المقام على الهوان بلاءُ
أصل الغدو إلى الرواح وإنّما ... أذني وأذن الأبعدين سواءُ
أجفى ويدعى من ورائي جالساً ... ما بالكرامة والهوان خفاءُ
فلما بلغ المهرب ذلك وجد عليه وألزمه بيته فكتب إليه:
جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يريد لي قد أزور جانبه
وكلهم قد نال شبعا لبطنه ... وشبع الفتى ليسؤم إذا جاع صاحبه
فيا عم مهلاً واتخذني لنوبة ... تلوم فإنَ الدهر جم نوائبه
أنا السيف إلاّ أنَّ للسيف نبوة ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه
فرضي عنه وعزل المغيرة وولاه. وقال خالد الكاتب:
أعان طرفي على جسمي وأحشائي ... بنظرة وقفت جسمي على داءِ
وكنت غراً بما يجنى على بدني ... لا علم لي أنَّ بعضي بعض أدواءِ
وأخذه من قول إبراهيم بن المهدي:
إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوادر
فلم يعلم الواشون ما بيننا ... وقد قضيت حاجاتنا بالضمائر
أقاتلتي ظلما بأسهم لحظها ... أما حكم يقضي على طرف جائرِ
فلو كان للعشاق قاض من الهوى ... إذا لقضى بين الفؤاد وناظري
ومثله قول الآخر:
والله يا طرفي الجاني على بدني ... لتطفئن بدمعي لوعة الحزن
ولهذا الشعر قصة طريفة: حكي عن بعض المغنين قال قدم عليَّ فتى حسن الوجه عليه اثر السقم وقال: لي عندك حاجة! قلت: وما هي؟ فأخرج ثلاثمائة دينار وقال: اقبلها مني واصنع لي لحنا في بيتين وغنني بها. فقلت: نعم! حبا وكرامة فأنشد البيتين المذكورين. قال: فصنعت لحنا شجيا ثم غنيته إياه. فأغمي عليه حتى ظننته قد مات ثم أفاق وكأنما نشر من قبر. فقال: أعد عليّ! فناشدته الله في نفسه وقلت: أخشى والله أن تموت. فقال: ليت ذلك قد كان فأستريح! وجعل يتضرع لي حتى رحمته فأعدت الصوت. فصعق صعقة ظننت أن نفسه زهقت فيها. فجعلت أنضح وجهه بالماء. فلما أفاق وضعت دنانيره بين يديه وقلت: انصرف عني فإني لا أحب أن أشرك في دمك. فقال: لا حاجة لي بها ولك عندي مثلها. وأخرج ثلاثمائة أخرى وقال: أعد علي الصوت مرة أخرى وأنا أنصرف عنك. فشرهت نفسي إلى الدنانير وقلت: أفعل على ثلاث شروط. قال: وما هي؟ قال: الأول أن تأكل من الطعام ما تتقوى به؛ والثاني أن تشرب أقداحا من النبيذ تمسك قلبك والثالث أن تحدثني بقصتك فلعل ذلك ينفعك. فقال: نعم. فدعوت بالطعام فأصاب منه ودعوت بالشراب فشرب أقداحا وأنا أغنيه ما يحضرني. فلما رأيت النبيذ شد قلبه غنيت الصوت فطرب وأعته عليه مرارا رضي وسكن. فقلت: حدثني. فقال. أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزها وقد سال العقيق مع أصحاب لي. فخرج فتيات لمثل ما خرجنا إليه. فنظرت إلى فتاة منهن كأنها غصن بان، فعلقتها من وقتي وأطلت إليها وأبصرت هي ذلك مني. فلما تفرق الناس وجدت بقلبي جرحا ولم أعرف لها ولا لصواحبها خبرا. فمرضت لذلك حتى يئس مني أهلي. فخلت بي ظئري وسألتني عن ضري وضمنت لي كتمان السر والسعي فيما يصلح. فأخبرتها خبري، فقالت: لا بأس عليك سيعود المطر ويسيل العقيق فتخرج معك. فإذا رأيتها عرفتني بها فلا أفارقها حتى تقف على موضعها وأوصلك إليها وأسعى في تزوجها. فسكنت نفسي لقولها ولم نلبث أن جاء المطر وسال العقيق. فخرجت مع أصحابي ومعي ظئري وجلسنا مجلسنا الأول بعينه وإذا بالنسوة وفيهن صاحبتي. فأومأت إلى ظئري حتى عرفتها وقلت لها: انطلقي وقولي: يقول لك الفتى: والله لقد أحسن الذي يقول:
رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا
فمضت وقالت لها ذلك. فقالت: قولي له: لقد احسن القائل واحسن الذي يقول:
بنا مثل ما يشكو فصبرا لعلنا ... نرى فرجا يشفي الفؤاد قريبا
قال: فلما انصرفنا، تبعتها حتى عرفت مكانها، فتلطفت حتى جمعت بيننا على مخالسة، فظهر ما بيننا فحجبت عني ولم أقدر على لقائها. فبلغ ذلك أبي فخطبها من أبيها فقال: لو كان هذا قبل اشتهار حديثها لأسعفته؛ وأما الآن فلا أحقق مقالة الناس فيها بتزويجها منه. فيئست منها ومن نفسي، فخرجت هائما حتى بلغتك. قال المعني المذكور: ثم إنني حضرت مجلس جعفر بن يحيى، فغنيته بشعر الفتى، فقال: ويحكم! ما هذا الصوت وما قصته؟ فقلت: قصة أظرف منه. ثم حدثته بحديث الفتى، فأمر بإحضاره وسأله، فأعاد عليه الحديث كما حدثته فقال له: أنا ضامن لك تزويجها، فطابت نفسه. ثم ركب جعفر إلى الرشيد وحدثه الحديث. فاستظرفه وأمر بإحضارنا جميعا، وسأل الفتى عن حديثه فحدثه وقال لي: غن الصوت فغنيته وطرب له وشرب عليه، وأمر بالكتب إلى عامل الحجاز بأشخاص الرجل وأهله وولده مكرمين. فلما حضروا عنده أعطى الرجل ألف دينار وأمره بتزويج الجارية من الفتى، وأعطى الفتى ألفي دينار، وأمر لي بألف دينار.
وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، من قصيدة:
انظر وإياك الهوى لا تمكنن ... شيطانه من مقلةٍ شوشاء
وقال أيضاً، من هذه القصيدة، يخاطب خالد بن يزيد:
لو سيرت لالتقت الضلوع على أسى ... كلف قليل السلم للأحشاء
ولجف نوار الكلام وقلما ... يبقى بهاء الغرس بعد الماء
وقال أيضاً، من أخرى:
لا تسقيني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ما بكائي
وفي إضافة الماء للملام، غرابه أوجبت بعض الهجنة والبرودة في الكلام يحكى إنّه عيب عليه ذلك حتى تحدث أن بعض عصرييه أرسل إليه إنَّ ابعث إلي بشربة من ماء الملام. فقال: حتى تبعث إلي بريشة من جناح الذل. وهذه خطيئة أبشع من الأولى، فإن الاستعارة في جناح الذل مأنوسة الاستعمال قديما وحديثا، ومدركا حسنها وفصاحتها بالذوق دون ماء الملام. وقد وقع له في هذه القصيدة نفسها ما يقرب من هذا، حيث قال:
رأي لو استسقيت ماء نصيحةٍ ... لجعلته رأيا من الآراء
غير إنَّ هذا، وإنَّ كان غريبا، يحسنه أن الرأي والنصيحة تحيا بهما النفوس كما تحيا بالماء الأبدان، ولا كذلك الملام. وقال أبو الطيب أحمد بن حسين المتنبي:
عذل العواذل حول قلبي التائه ... وهوى الأحبة منه في سودائه
وتقدم هذا المنزع وما فيه قبل. وقال أيضاً:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا انطلقت فأني الجوزاء
وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... ألا تراني مقلة عمياء
وقال الآخر:
إنَّ الحديث جانب من القرى ... ثم المنام بعد ذلك في الذرى
وقال الآخر:
إذا القوم قالوا من لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى ولكنه الفتى
وقال الآخر:
ضاع سعيي وخبت وخابت أعاديك ... ومن يبتغي لك الأسواء
واحتملت الحرمان والنقص والأبعاد ... والذل والعنا والجفاء
وتحملت واصطبرت فلم يبق ... على عوادي الزمان لحاء
أعلى هذه المصيبة صبر ... لا ولو كنت صخرة صماء
ومثله في التشكي قول الآخر:
أسجناً وقيد واشتياق وغربة ... ونأي الحبيب إنَّ ذاك عظيم!
وإنَّ أمرءاً تبقى مواثيق عقده ... على مثل ما لاقيته لكريم
وقول الآخر:
ولقد أردت الصبر عنك فأعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم
يبقى على حادث الزمان وريبه ... وعلى جفائك إنّه لكريم
وقال الآخر:
قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل
وقال الآخر:
وإذا ما الصديق صار عدوا ... كان في الشر أكبر الأعداء
وقال الآخر:
لا تعدن للزمان صديقا ... واعد الزمان للأصدقاء
ومثله قول الآخر:
ليس بالمنكر انقلاب صديقٍ ... ربما غص شارب بالشراب
لا تصيع مودة من صديق ... فانقلاب الصديق شر انقلاب
وقول منصور الفقيه:
أحذر عدوك مرة ... وأحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق ... فكان أعرف بالمضره
وقوله:
أحذر مودة ماذق ... مزج المرارة بالحلاوة
يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوة
وقول الآخر:
كن من صديقك خائفا فلربما ... حال الصديق فصار غير الصديق
وقول أبن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد ... فأقلل ما استطعت من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
وقول الآخر:
دار الصديق إذا استشاط تغيظا ... فالغيظ يخرج من كامن الأحقاد
قول أبن الخالدي:
وأخٍ رخصت عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخص
ما في زمانك ما يعز جوده ... إنَّ رمته إلاّ صديق مخلص
وقول المنصور أيضاً:
إذا تخلفت عن صديقٍ ... ولم يعاتبك في التخلف
فلا تعد بعدها إليه ... فإنما وده تكلف
وقول الأنصاري:
إلاّ رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته ساءك ما يفري
لسان له كالشاهد مادت حاضراً ... وبالمغيب مطرور على ثغرة النحر
وقول أبي الطيب:
ومن نكد الدنيا على المرء إنَّ يرى ... عدوا له ما من صداقته بد
وما يحكى إنَّ كسرى قال يوما لمرازبته: من أي شيء انتم اشد حذراً؟ قالوا: من العدو الفاجر، والصديق الغادر. وقول موسى بن جعفر: اتق العدو وكن من الصديق على حذر، فإن القلوب سميت قلوب لتقلبها. وسيأتي كثير من هذا النمط بعد إنَّ شاء الله تعالى. وقال أبو الطيب:
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء
وقال أيضاً مادحا:
وإذا مدحت فلا لتكسب رفعة ... للشاكرين على الإله ثناء
وإذا مطرت فلا لأنك مجدب ... يسقى الخصيب وتمطر الادماء
والادماء: البحر. وقال أيضاً:
إنّما التهنئات للأكفاء ... ولمن يدني من البعداء
وأنا منك لا يهنئ عضو ... بالمسرات سائر الأعضاء
وقال أيضاً من هذه القصيدة يمدح كافورا وكان أسود:
إنّما الجلد ملبس وابيضاض ... النفس خير من ابيضاض القباء
وقال أيضاً:
وما كل من قال قولا وفى ... ولا كل من سيم خسفاً أبى
وقال:
ولا بد للقلب من آلة ... ورأي يصدع صم الصفا
وقال:
فكان على قربنا بيننا ... مهامه من جهله والعمى
وقال:
وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
وقال:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
وقال الحماسي محرز الضبي يهجو بني عدي بن جندب، من أبيات:
وإني لراجيكم على بطئ سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
واخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساءوا
وقال القاسم بن حنبل في بني سنان:
لهم شمس النهار إذا استقلت ... ونور ما يغيره العماء
هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسن العشيرة حيث شاءوا
بناة مكارم وأساء كلمٍ ... دماؤهم من الكلب الشفاء
وإنّما قال ذلك لمّا يزعمون من أنَّ من أصابه الكلب، وهو شبه جنون يصيب من عضه الكلب، ثم سقي دم ملك أو شريف برئ، ومثله قول زهير:
وإنَّ يقتلوا فيشتفى بدمائهم ... وكانوا قديما من مناياهم القتل
وقول الآخر:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم من الكلب
وقال الحسين بن مطير الأسدي يصف برقا وسحابا:
مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزن ولا بمسرةٍ ... ضحك يراوح بيننا وبكاء
كثرت ككثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء
وكأن عارضها حريق يلتقي ... أشب عليه وعرفج وآلاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لو يبق في لجج السواحل ماء
وللعرب فمن بعدهم في وصف السحاب والبرق والرعد إكثار وإطناب لا يأتي عليه الحصر ولكنا نذكر جملة من مستحسن ذلك ومما كان منه حسن إنَّ يتمثل به. فمن ذلك قول امرئ القيس:
اصاح ترى برقها وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... آمال السليط في الذبال المفتل
وقوله:
اعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيا في شماريخ بيض
ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتغتاب الكسير المهيض
وتخرج منه لامعات كأنها ... اكف تلقى الفوز عند المفيض
وقوله:
ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر
تخرج الود إذا ما اشجذت ... وتواريه إذا ما تستكر
وهي قطعة أبيات في هذا. وأشجذت: أقلعت. وقوله:
يساجل التؤم اليشكري ... وأواخر الأنصاف للتؤم
وقوله:
أحار ترى بريقا هب وهنا ... كنار مجوس تستعر استعارا
أرقت له ونام أبو شريح ... إذا ما قلت قد هدأ استطارا
كأن هزيره بوراء غيب ... عشار وله لاقت عشارا
فلما أن دنا لقفا أضاح ... وهت أعجاز ريقه فحارا
فلم يترك بذات السر ظبيا ... ولم يترك بجلهتها حمارا
وقال عبيد أبن الأبرص:
يا من لبق أبيت الليل ارقبه ... في عارض كمضي الصبح لماح
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
كأن ريقه لمّا علا شطبا ... اقراب ابلق ينفي الخيل رماح
ينزع جلد الحصى أجش مبترك ... كأنه فاحص أو لاعب داح
فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
كأن فيه عشار جلة شرفا ... شعثا لهاميم قد همت بارشاح
هدلا مشافرها بحا حناجرها ... تزجا مرابعها في صحصح ضاح
وقول كثير:
فالمستكن ومن يمشي بمروته ... سيان فيه ومن بالسهل والجبل
وقول الحماني:
دمن كأن رياضها ... يسبيان أعلام المطارف
وكأنما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف
وكأنما أنهارها ... يهتز بالريح العواصف
طرر الوصائف يلتقين ... بها إلى طرر الوصائف
باتت سواريها تمخض ... في رواعدها القواصف
ثم انبرت سحا ... كباكية بأربعة ذوارف
وكأن لمع بروقها ... في الجو أسياف المثاقب
وقول عبيد:
سقى الرباع مجلجل ... الأكناف لمع بروقه
جون تكفكفه الصبا ... وهنا تمريه خريقه
مري العسيف عشاره ... حتى إذا درت عروقه
ودنا يضيء ربابه ... غبا يضرمه حريقه
حتى إذا ما ذرعه ... بالماء ضاق فما يطيقه
هبت له من خلفه ... ريح الشماسية تسوقه
حلت عزاليه الجنوب ... فثج واهيه خروقه
وقال كثير:
تسمع الرعد في المخيلة منها ... مثل هزم القرون في الاشوال
وترى البرق عارضا مستطيرا ... مرح البلق جلن في الإجلال
أو مصابيح راهب في يفاع ... سغم الزيت ساطعات الذبال
وقوله:
اهاجك برق آخر الليل واصب ... تضمنه فرش الحيا فالمسارب
يجر ويستأني نشاطا كأنه ... بغيقه حاد جلجل الصوت جالب
تألق واحمومى وخيم بالربى ... احم الذرى ذو هيدب متراكب
كما اومضت بالعين ثم تبسمت ... خريع بدا منها جبين وحاجب
وقول عبد الله بن المعتز:
ومزنة جاد في أجفانها مطر ... فالروض منتظم والقطر منتثر
ترى مواقعه في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر
وقوله أيضاً:
كأن رباب الجون والفجر ساطع ... دخان حريق لا يضيء له جمر
وقول أبي الغمر:
نسجته الجنوب وهو صناع ... فترقى كأنه حبشى
وقول الآخر:
ما ترى نعمة السماء على الار ... ض وشكر الرياض على الأمطار
وقول الآخر:
وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادي فوق أعناق الرياح
فجاءت ليلها سحا ووبلا ... وهطلا مثل أفواه الجراح
وقول الآخر:
بدا البرق من نحو الحجاز فشاقني ... وكل حجازي له البرق شائق
سرى مثل نبض العرق والليل دونه ... وأعلام أبلى كلها والاسالق
وقول الطائي ومنه اخذ:
إليك سرى بالمدح ركب كأنهم ... على العيس حيات اللصاب النضانض
تشيم بروقا من نداك كأنها ... وقد لاح أولاها عروق نوابض
وقول الآخر:
أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبا منها يهب ويهجع
سرى كإقتداء الصبر والليل ضارب ... بأوراق والصبح قد كاد يسطع
وقول الآخر:
أرقت لبرق سرى موهنا ... خفي كغمزك بالحاجب
كأن تألقه في السماء ... يدا حاسب أو يدا كاتب
وقول أبن المعتز:
رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يجب
ثم حدت بها الصبا حتى بدا ... فيها من البرق كأمثال الشهب
تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعة يضرب
وتارة تحسبه كأنه ... ابلق مال جله حين وثب
حتى إذا ما رفع اليوم الضحى ... حسبته سلاسلا من الذهب
؟؟ وقول الآخر:
نار تجدد للعيدان نضرتها ... والنار تلفح عيدان فتحترق
وقول الطائي:
يا سهم للبرق الذي استطارا ... ثاب على رغم الدجى نهارا
آض لنا ماء وكان نارا
وقول عبد الله بن عبد الله بن طاهر:
أما ترى البرق قد رقت حواشيه ... وقد دعاك إلى اللذات داعيه؟
وجاد بالقطر حتى خلت إنَّ له ... إلفا ناه فما ينفك يبكيه
ومثله قول الآخر:
كأن سحاب الغر غيبن تحتها ... حبيبا فما ترقى لهن مدامع
وتتبع الشعر في هذا يطيل فلنمسك العنان. وقال أبو الأسود الدؤلي:
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن القي دلوك في الدلاء
تجيء بملئها طورا وطورا ... تجيء بحماة وقليل ماء
وسيأتي إتمام هذا المنزع بعد إن شاء الله تعالى. وقال أبن نقطة:
لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في الضراء والسراء
فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
وقال أبو سعيد الخوارزمي في أبي بكر الخوارزمي الشاعر:
أبو بكر له أدب فضل ... ولكن لا يدوم على الوفاء
مودته إذا دامت لخل ... فمن وقت الصباح إلى المساء
وقال عبد الله بن رواحة الأنصاري يوم خرجوا إلى مؤتة وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بعد زيد وجعفر رضي الله عنهم أجمعين:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا ارجع إلى أهلي وراء
قوله: فشأنك فانعمي يريد إنّه قضى الوطر من ركوبها ولم تبق له تباعة على ظهرها وهي كناية على إنّه لا يحب المرجع ولا يشتهي مذهبا على ذلك الموضع. ومن ثم قال: ولا ارجع إلى أهلي بجزم الفعل قصدا للدعاء كأنه يقول: اللهم لا ترجعني إلى أهلي وأستشهدني! وما ذكره في الناقة قد تداوله الشعراء كثيرا فمن ذلك قول الشامخ في عرابة الأوسي:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعة لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
إذا بلغتني وحملت رحلي ... إليه فاشرقي بدم الوتين
ومثل سراة قومك لم يجاروا ... إلى ربع الرهان ولا الثمين
وكان الشماخ قدم المدينة فقال له عرابة: ما أقدمك؟ فقال: قدمت لأمتار. فملأ له عرابة رواحله تمرا وبرا وأعطاه غير ذلك فقال فيه ما تقدم. وقول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي رباح:
إذا أبن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليكِ جازرُ
غي إنّه يعاب على هذين الشاعرين أن جعلا جزاء الراحلة التي بلغتهما ذلك المأمول العظيم والمطلب الخطير شرا، وما كان ينبغي لهما أن ينظرا لها عند الاستغناء عنها ويكافئها خيرا بما قضيا منها كما أشار إليه أبلغ البلغاء وأحكم الحكماء صلى الله عليه وسلم حيث وردت المرأة راكبة على ناقته فقالت: إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها. فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما جزيتها! لا نذر في معصية الله ولا نذر للإنسان في غير ماله. أو كما قال صلى الله عليه وسلم وعلى هذا المنزع العجيب النبوي كان قول أبن رواحة السابق. وقول أبي نواس في محمد الأمين بن هارون الرشيد، وأوضح هذا المعنى:
وإذا المطي بنا بلغنا محمدا ... فظهورهن على الرجال حرامُ
قربننا من خير من وطئ الثرى ... فلها عينا حرمة وذمامُ
وقول الفرزدق:
متى تردى الرصافة تستريحي ... من التهجيري والدبر الدوامي
ولهذا الشعر قصة تذكر بعد إن شاء الله تعالى. والعذر للأولين أن الدعاء عليها في نحو ذلك أبلغ في التنبيه على الاستغناء عنها وعدم الالتفات إليها. وليس هذا المعنى ملحوظا في قصة المرأة فليس يقاس عليه. ومن هذا الباب قول السلامي:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصار المطايا أن يلوح لها القصرُ
ولعل السابق إلى هذا المعنى الأعشى القيسي في قصيدته التي توجه بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
متى ما تناخي عند باب أبن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا
فضمن لها عند النزول بابن هاشم صلى الله عليه وسلم أن يخلي عن ظهرها ويريحها من كد الأسفار إذ لا مطلب ورائه ولا حاجة إلى أحد سواه. وقال أبو بكر بن دريد في مقصورته:
والناس كالنبت: فمنهم رائق ... غضٌ نضيرٌ عوده مر الجنى
ومنه ما تقتحم العين فإنَ ... ذقت جناه انساغ عذبا في اللهى
وهذا المقصورة جلها أمثال وحكم، وهي مشهورة لا حاجة إلى ذكرها. وقال الآخر:
يقولون هذه أم عمرو قريبةٌ ... نأت بك ارضٌ نحوها وسماءُ
ألا إنّما قرب الحبيب وبعده ... إذا هو لم يوصل إليه سواءُ
وقال صالح بن جناح:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... ولا خير في وجهٍ إذا قل ماؤه
وقال الآخر:
ورب دنيةٍ ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياءُ
إذا رزق الفتى وجهاً وقاحا ... تقلب في الأمور كما يشاءُ
وتقدم شيء من هذا في قولهم: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. وقال الآخر:
إذا جار الأميرُ وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاءِ
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ... لقاضي الأرض من قاضي السماءِ!
وقال زهير:
وإنَّ الحق مقطعه ثلاثٌ ... يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ
ويروى أنَّ عمر رضي الله عنه لمّا سمع هذا البيت جعل يردده استحسانا له وتعجبا من معرفته بالحقوق وإبانته أحكامها وإقامته أقسامها. وقال الآخر:
خير ما ورث الرجال بينهم ... أدب صالح وحسن ثناءِ
وقال سابق البربري:
موت التقي حياة لا انقطاع لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياءُ
ومثله قول الآخر:
أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميمُ
وذو الجهل ميتٌ وهو يمشي على الثرى ... يعد من الأحياء وهو عديمُ
وقال أبن الرومي:
إنَّ لله بالبرية لطفا ... سبق الأمهات والأباءَ
وقال أيضاً:
أنت عيني وليس من حق عيني ... غض أجفانها على الأقذاءِ
وقال لبيد:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والامساءُ
وقال عبد الله بن عيينة:
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداءِ
ومثله في ذكر الشماتة قول الآخر:
إذا ما الدهر جر على أناس ... بكلكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وقال عدي بن زيد:
أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرورُ
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفيرُ
وقال منصور الفقيه:
يا من يسرُ بموتي ... إذا أتاه البشيرُ
أليس من كان بمثلي ... إلى مصيري يصيرُ
وتمثل الشافعي رضي الله عنه، حين بلغه دعاء من دعا عليه بالموت ببيتي الشاعر:
تمنى رجال أن أموت فإنَ أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحدِ
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قدِ
وقال الحماس في الملح:
وما العيش إلاّ أكلة وتشرق ... وتمر كأكباد الجراد وماءُ
التشرق بالراء: القعود للشمس، والتمر الذي كأكباد الجراء: الصيحاني. وقال الآخر:
من فاته العلم واخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حدٍ سوا
ولنقتصر على هذا القدر من هذا الباب، فإنَ فيه كفاية إن شاء الله تعالى. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.









مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید