المنشورات

أثقل من حديث معادٍ.

الثقل تقدم؛ والحديث: الخبر؛ والمعاد: الذي سمعته ثم أعيد عليك مرة أخرى فهو يثقل على السماع كثيرا لعدم الداعي إلى سماعه، مع الملل الحاصل للنفس من تكراره. والنفس للطافتها وروحانيتها اكثر من البدن تألما بالاذاية واقل صبرا واحتمالا، فلا تكاد ترتاح إلاّ إلى ما فيه غذاؤها، من علوم تستحصلها، أو غرائب ولطائف تتفكه بها. فإذا عمدت ذلك غلبها الضجر، ونفرت غاية النفر؛ ومن ثم تستثقل الكلام المعاد وتمل منه، ولو كان في نفسه بليغا عجيبا، إذ لم يبق لها حظ فيه. وكان عدم الملل في كتاب الله تعالى، مع معاودته على مرور الليلي والأيام، معجزة ظاهرة للعيان؛ ومن ثم قيل: كل مكرر مملول إلاّ القرآن. ومما قيل في ثقيل:
يا ثقيلاُ على القلوب إذا عن ... لها أيقنت بطول الجهاد!
يا قذى في العيون يا غلة بين ... تراقي حرارة في الفؤاد!
يا طلوع العذول يا بين ألف ... يا غريما أتى على الميعاد!
يا ركوما في يوم غيم وصيف ... يا وجوه التجار يوم الكساد!
خل عنا فإنما أنت فينا ... وأو عمرو وكالحديث المعاد!
وامض في غير صحبة الله ما عشت ... ملقى من كل فج وواد
يتخطى بك المهامه والبيد ... دليل أعمى كثير الرقاد
وقال بعضهم في صفة ثقيل: هو أثقل من دواء بلا علة، وأبغض من خراج بلا غلة؛ قد خرج عن حدّثني الاعتدال، وذهب من ذات اليمين إلى ذات الشمال؛ يحكي ثقل الحديث المعاد، ويمشي على القلوب والأكباد؛ إذا نظرت إلى مشيته أنشدت:
مشى فدعا من ثقله الحوت ربه ... وقال: إلاهي زيدت الأرض ثامنه!
وقد يستحسن إعادة الحديث، لا لذاته بل لأمر عارض فيه للنفس أرب أما رغبة في كلام المتكلم خصوصا، أو في نغمته، أو في النظر إليه، أو في دوام جلوسه، أو عدم قضاء الوطر من ذلك الكلام أو نحو ذلك، ومن ثم يستعدا حديث المحبين والمغنين، كما قيل:
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
ولهذا الشعر حديث عجيب: ذكروا إنَّ رجلاً خرج في طلب إبل له أضلها. قال: فبينما أنا في واد إذ سمعت صوت منشد ينشد: وكنت إذا ما جئت سعدي أزورها " البيتين ". فدنوت من الصوت، فإذا أنا براعٍ قد ضم غنما له تحت شجرة وهو يترنم، فسلمت عليه، فرد علي السلام وقال: من الرجل؟ فقلت: منقطع مه المسالك، أتاك يستعين بك ويستجير. فقال: أهلاً ومرحبا، انزل على الرحب! فعندي وطاء وطي وطعام غير بطي. فنزلت فنزع شملته، فبسطها تحتي ثم أتاني بتمر وزبد ولبن وخبز، ثم قال: اعذرني في هذا الوقت! فقلت: والله إنَّ هذا لخير كثير! فمال إلى فرسي فربطه وساقه وعلق عليه. وفلما أكلت صليت واستندت فبينما أنا بين النائم واليقظان، إذ أقبلت من فوق الوادي جارية أطلعت الشمس في غير أوان طلوعها، فوثب الفتى إليها، وجعل يقبل الأرض حتى وصل إليها. فأخذ في حديث مستلذ، مع شكوى وزفرات، وأنا متناوم، وهما لا يهم أحدهما لصاحبه بقبيح. ولم يزالا كذلك حتى طلع الفجر، فعانقها وتنفس الصعداء وبكيا، ثم قال لها: يا ابنة العم، بالله لا تبطئي علي كما أبطأت الليلة! فقالت يا أبن العم، ما علمت أني أنتظر الرقباء والوشاة حتى يناموا؟ فودعها وافترقا، وكل منهما ينظر لصاحبه ويبكي. فبكيت رحمة لهما ثم قلت في نفسي: أستضيفه الليلة الأخرى حتى أنظر ما يكون من أمرهما. فلما أصبحنا قلت له: جعلني الله فداك الأعمال بخواتمها، وقد نالني أمس تعب، واحب إنَّ أستريح عندك اليوم. فقال:
على الرحب والسعة! لو بقيت عندي بقية عمرك ما وجدتني إلاّ كما تحب. فعمد إلى شاه فذبحها وشواها، فقدمها إلي فأكلت وأكل معي إلاّ إنّه أكل، أكل من لا يريد أكلا. فلما أزل معه نهاري ذلك، ولم أر أشفق منه على غنمه ولا ألين جانبا ولا أحلى كلاما منه؛ إلاّ إنّه كالولهان، ولم أعلمه بشيء مما رأيت. فلما أقبل الليل وطأ وطائي، وصليت وأعلمته إني أريد الهجوع لتعبي. فقال: نم هنيئا! فتناومت فقام ينتظرها إلى هنيئة من الليل وأبطأت. فلما حان وقت مجيئها قلق قلقاً شديداً، فبكى ثم جاء فحركني فأوهمته إني كنت نائما، فقال: يا أخي، هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني ز جاءتني البارحة؟ قلت: قد رأيتها. قال تلك ابنة عمي واعز الناس علي، وإني لها محب وعاشق، وهي كذلك وأكثر. ومنعني أبوها من تزويجها لفقري وفاقتي، وتكبر علي، فصرت راعيا بسببها، فكانت تزورني كل ليلة. وقد حان وقت مجيئها، واشتغل قلبي عليها، وتحدثني نفسي إنَّ الأسد قد افترسها، ثم انشأ يقول:
ما بال مية لا تأتي لعادتها؟ ... أعاقها طرب أم شدها شغل؟
نفسي فداؤك قد أحللت بي سقما ... تكاد كم حره الأعضاء تنفصل!
ثم ذهب فغاب عني ساعة، ثم أتى بشيء فطرحة بين يدي، فإذا بالجارية قتلها الأسد وأكل أعضائها وشوه خلقتها. ثم اخذ السيف وانطلق. فغاب عني ساعة، فإذا هو قد جاء برأس الأسد، فطرحه ناحية ثم قال:
ألا أيها الليث المدل بنفسه ... هلكت لقد جريت حقا لك الشرا!
أخلفتني فرداً وقد كنت آنسا ... وقد عادت الأيام من بعدها صفرا
ثم قال: بالله يا أخي إلاّ ما سمعت مني، فإني ميت لا محالة! فإذا أنا مت فكفني في عباتي، وضم إلي ما بقي من أعضائها، وادفنا في قبر واحد. وخذ شويهاتي هؤلاء وعصاي وثيابي، فسوف تأتيك عجوز، فأعطها ذلك فهي والدتي. وقال لها: مات ولدك كمداً، فإنها تموت عند ذلك، فادفنها إلى جانب قبرنا، وعلى الدنيا منا السلام! فلم يكن إلاّ قليلا حتى صاح صيحة، ووضع يده على صدره فمات من ساعته. ففعلت به جميع ما أوصاني وبت حزينا باكيا فلما أصبحنا، أقبلت عجوز ولهى، فسألتني عنه، فأخبرته خبره، فجعلت تبكي حتى إذا أقبل الليل شهقت شهقة فارقت الدنيا. فدفنتها إليه وبت الليلة الرابعة. فلما أصبحت ركبت فرسي وسقت الغنم وإذا أنا بهاتف يقول:
كنا على ظهرها والدهر يجمعنا ... والشمل مجتمع والدار والوطن
ففرق الدهر بالتفريق ألفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن
قال: فأتيت الحي ودفعت الغنم لبني عمهم وانصرفت.











مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید