المنشورات

تجمع الحرة ولا تأكل بثدييها.

الجوع ضد الشبع. والحرة ضد الأمة والأكل معروف؛ وكذا الثدي وجمعه ثديّ. قال الشاعر:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورها
ويحكى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. ومعناه أنَّ الحرة قد يصيبها ألم الجوع وشدة الاضطراب ولا تؤجر نفسها على الإرضاع لتأكل أجر رضاعتها، فتلزم نفسها الاصطبار صونا لنفسها عن الهوان ة الابتذال. فيضرب في الحر يصون نفسه عن قبيح المكاسب ولا تمنعه شدة فقره وحاجته أن يلزم صيانته ويحفظ مروءته.
وأصل المثل للحارث الأزدي أو الأسدي وكان خطب إلى علقمة بن حفص الطائي بنته ريا بنت علقمة وكان الحارث شيخا. فقال علقمة لامرأته: اختبري ما عند ابنتك! فقالت لابنتها: أي بنية أي الرجال أحب إليك: الكهل الجحجاح الواصل المياح أم الفتى الوضاح الذهول الطماح؟ قالت: بل الفتى. قالت: إنَّ الفتى يغريك وإنَّ الشيخ يمريك. قالت: يا أمتاه إنَّ الفتاة يحب الفتى كحب الرعاء أنق الكلا. قالت: يا بنية إنَّ الفتى شديد الحجاب كثير العتاب. قالت: يا أمتاه أخاف من الشيخ أن يدنس ثيابي ويبلي شبابي ويشمت بي أترابي! فلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث وأرتحل إلى أهله. فبينما هو ذات يوم بفنائه وهي إلى جنبه إذ أقبل شاب من بني أسد. فتنفست الصعداء ثم بكت. فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ من كل حقول فنيخ؟ فقال: ثكلتك أمك! تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. ثم قال: وأبيك! لرب غارة شهدتها وسبيئة أرفدتها وخمرة شربتها فلحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك! وقال أبو عبيد في هذا المثل إنّه من أمثال أكثم بن صيفي. قال: وهو مثل قديم لكن العامة ابتذلته وحولته فقالت: ولا تأكل ثدييها يعني بإسقاط حرف الجر. قال بعض العلماء: ليس هذا بشيء إنّما بثدييها ومعناه عندهم الرضاع. يقال لا تكون ظئر القوم على جعل تأخذه منهم. انتهى.
وقال بعض الأمة: إنَّ العرب كانوا يعدون أخذ الأجر على الرضاع سبة ولذلك قيل: تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها. وقال العلماء: بثدييها. والقولان صحيحان لأنها إذا أكلت ثمن لبنها فكأنها قد أكلت ثدييها. قال الراجز:
إنَّ لنا أحمرة عجافاً ... يأكلن كل ليلةٍ أكافا
أي: نبيع كل ليلة أكافاً من أكفتها ونعلفها ثمنه. قال: وكذلك قول الآخر في وصف إبل: نطعمها إذا شتت أولادها أي أثمان أولادها. انتهى.
وقال السهيلي في الروض: والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودا عند أكثر نساء العرب حتى جرى المثل: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. وكان عند بعضهم لا بأس به فكانت حليمة وسيطة في بني سعد كريمة من كرائم قومها بدليل اختارها الله إياها لرضاع نبيه صلى الله عليه وسلم كما اختار أشرف البطون والأصلاب. والرضاع كالنسب لأنّه يغير الطباع. 
وفي المسند عن عائشة ترفعه: لا تسترضعوا الحمى فإنَ اللبن يورث! ويحتمل أن تكون حليمة وقومها طلبن الرضعاء للأزمة التي أصابتهم والسند الشهباء التي أقحمتهم اضطرارا. قال: وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع فقد يكون ذلك لوجوه: أحدها تفريغ النساء إلى الأزواج كما قال عمار بن ياسر لأم سلمة وكان أخاها من الرضاعة حين انتزع من حجرها زينب بنت لبي سليمة فقال: دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد يكون ذلك منهم أيضاً لينشأ الطفل في الأعراب فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسده وأجدر أن لا يفارق الهئة المعدية كما قال عمر: تمعددوا وتمعززوا واخشوشنوا! وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر حين قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال: وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد؟ فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى الأعرابيات. وقد ذكر أنَّ عبد الملك بن مروان كان يقل: أضر بنا حب الوليد! لأن الوليد كان لحانا وكان سليمان فصيحا لأن الوليد أقام مع أمه وسليمان وغيره من أخوته أسكنوا البادية فتعربوا ثم أدبوا فتأدبوا. انتهى. وقد قلت في نظم المثل المذكور من قصيدة:
يعرى الفتى ويجوع وهو يرى ... متجملاً بالصبر والبشرِ
والحرة الشماء ربتما ... جاعت ولم ترضع على أحرِ












مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید