المنشورات

حرب عوان.

اعلم إنَّ العرب ضربوا للحرب المثل بأوصاف شتى: فمن السائر من ذلك العوان واللأقح والرباعية. يقولون: حرب عوان وحرب لاقح وحرب رباعية. أما العوان فاصلها في النساء وهي النصف في سنها وكذا في سائر الحيوانات. قال تعالى: لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك. ويقال العوان التي لها زوج. قال النابغة:
ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر
وهذا أيضاً نحتمل. والجمع عون بالضم. واشتقاق العوان من العون وهو القوة لأنها عرضة للأعانة إن استعينت. وأما العوان من الحروب فهي التي كانت قوتل فيها مأخوذ من عوان النساء كأنهم جعلوها في المرة الأولى بكرا ثم تصير ثيبا. قال أبو جهل يرتجز يوم بدر:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سن
لمثل هذا ولدتني أمي
وقال زهير:
إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل
وقال الحماسي موسى بن جابر:
وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى ... فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي
ومعلوم انهم ما وصفوها بالعوان إلاّ للمبالغة وإرادة إنّها شديدة لا مجرد إنّها قوتل فيها مرة. وكان ذلك لأجل إنَّ المبتكرة يخف أمرها لعدم استحكام الضغائن فيها بعد بخلاف التي تقدمها قتلا غرس في القلوب الضغائن وأحفظها وأكثر الأوتار. فذلك مظنة الاشتداد مع عظم العود إلى الحروب على النفس ونفور النفوس منه وكراهيتها له كما قال الآخر:
الحرب أوّل ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... عادت عجوز غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت ... مكروهة للشم والتقبيل
وأما تشبيه الأولى بالبكر والثانية بالعوان فذلك يكون لثلاثة اوجه: الوجه الأول إنَّ البكر من النساء هي التي لم تتقدم ممارستها ومخالطتها بخلاف العوان. وهذا بين وإليه أشار حبيب في التعبير عنها بالثيب حيث قال:
ولا اجتلبت بكر من الحرب ناهد ... ولا ثيب إلاّ منهم لها خطب
الثاني إنَّ البكر لصغر سنها وجسمها في الحملة تشبه المرة الأولى لخفتها والعوان لعظم جسمها في الجملة وسنها تشبه الثانية لقوتها واشتدادها. وهذا من التوهم الخيالي.
الثالث إنَّ البكر اسهل لغرتها وقناعتها بما تجد ولا كذلك العوان: فإنّها لاحتكاكها وتجربتها وطموح عينها اصعب محاورة واشد معاشرة وأدهى نكرا واعظم مكرا وهذا واضح. وقد يوصف بالعوان الأرض التي أصيبت بالمطر مرة بعد أخرى تشبيها كالذي مر. قال الحميد بن ثور الهلالي:
ولقد نظرت إلى أغر مشهر ... بكر توسن بالخميلة عونا
متسنم سنمتها متفجس ... بالدهر يملأ أنفسا وعيونا
لقح العجاف له لخامس خمسة ... وشربن بعد تحلئ فروينا
أراد بالأعر سحابا أبيض وبكونه بكرا أنه لم يمطر قبل ذلك وأراد بالخميلة الرمل ذات الشجر والعون جمع عوان وهي الأرض التي أصابها المطر مرة. ومعنى توسنها طرقها هذا السحاب ليلا عند الوسن أي النوم تقول: توسنت الرجل إذ أتيته وهو وسنان. والسنمات العظام الأسنمة من الإبل وأطلقها هنا على التلال والأكم. وقوله متنسم يريد يتسنمها أي يعلوها كالفحل الذي يتسنم الاينق. وقوله:
متفجس أي متبكر بالدهر، أي رعده، تشبيها بهدر البعير؛ والعجاف أراد بها الأرضين المجدبة مجازاً؛ ومعنى لقحت حملت؛ أي أنبت عشبها. وقوله بعد تجلئ أي شربت بعد امتناع من الماء زمانا، من قولك: حلأته، أي دفعته وطردته. وأما اللاقح فأصلها في الحيوان أيضاً. يقال: لقحت الناقة بالكسر إذا حملت وألقحها الفحل، فهي لاقح ولقوح ولقحة بالكسرو يفتح. وحمع اللاقح لواقح ويجمع اللقوح لقح، وجمع اللقحة لقح، كقربة وقرب ولقح. وثم ضربوها مثلاً للحرب إذا عظمت واشتدت تشبيها لها بالناقة إذا جملت فعظم بطنها. قالت الفارغة بنت طريف:
ولم تسع يوم الحرب والحرب لاقح ... وسمر القنا ينكزنها بأنوف
ومنه قول زهير السابق: إذا لقحت حرب عوان مضرة.
ومن أبلغ ما ورد في هذا المعنى قوله أيضاً في ميميته، حيث وصف الحرب فقال:
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعكرتم عرك الرحا بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشام كلهم ... كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم
فتغلغل لكم مالا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
قوله تبعثوها ذميمة أي مذمومة، وكان الأفصح أن يقول ذميما، بغير هاء. ويروى بالدال المهملة، أي حقيرة، إشارة إلى معنى ما تقدم في قول الآخر: الحرب أول ما تكون فتية. وقوله عرك الرحا بثفالها، أي وهي على ثفالها. والثفال بالثاء المثلثة مكسورة ما يجعل تحت الرحا حال الطحن، يريد: تعرككم عرك الرحا إذا كانت طاحنة. وقوله تلقح كشافا: الكشاف إنَّ يحمل الفحل على الناقة سنتين ولاء أو كل سنة، أو أن تلقح حين تنتج، أو أن يضربها وهي حامل. وهي ناقة كشوفة، وقد كشفت تكشف، كشفا. وأراد أن هذه الحرب كلما خمدت عاجت. وقوله فتتئم، أي تأتي من حملها بتوءمين، وهذا تهويل وتعظيم لامر الحرب، وإيهام أنَّ شرها متكرر وهولها متضاعف. وشبهها بالناقة لما تقدم، ولأنها أيضاً يطول أمرها فتكون بمنزلة الناقة التي تضرب، ثم تحمل، ثم تنتج، ثم تفطم. وقيل لأنها يتحلب منها من الدماء مثل ما يتحلب من الناقة من اللبن. وقوله فتنتج لكم غلمان أشأم، فوضع أشأم موضع المصدر، أو غلمان شؤم أشأم على المبالغة، ونحو شغل شاغل، وليل أليل؛ أو غلمان امرئ أشأم. وقوله كلهم كأحمر عاد يعني عاقر الناقة، وهو يضرب به المثل في الشؤم، وأراد أحمر ثمود، فأضافه إلى عاد غلطا، كما قال الآخر: مثل النصارى قتلوا المسيحا وقيل ليس بغلط، لأن ثمود يقال لها عاد الآخرة، وهو دهم عاد الأولى. قال: تعالى:) وإنّه أهلك عاداً الأولى (. وأما الرباعية بياء مخففة فهي أيضاً في الإبل، وهي في السن التي بين الناب والثنية. ويقال للذي ألقى رباعية ربع، وجمعه ربع، كقذال وقذل. ويقال للغنم في السنة الرابعة أربعت، وللبقر وذات الحافر في الخامسة، ولذات الخف في السابعة. وتقدم ذكر أسنان الإبل إنَّ الرباعي منها والرباعية بين الثني والسدس. ويقال: جمل وفرس رباع ورباع، ونظيره ثمانٍ وثمانٌ، ونشاحٍ وناشحٌ، وجوارٍ وجوارٌ؛ والأنثى رباعية، وتوصف الحرب بالرباعية لشدتها وقوتها. قال الشاعر:
إنها حرب رباعية ... مثلها آتي الفتى عبره
وقيل لأمرأة من العرب













مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید