المنشورات

آلات الكتابة وأصناف الكتب.

وإذ أنجز بنا الكلام في الخط فلنكمل الغرض بذكر ما تيسر من آلات الكتابة، ومعنى الكتاب، والبراءة، والطبع، والتوقيع، والعنوان، وأصناف الكتاب، وجملة من شعر الأدباء في ذلك، وهذا باب واسع ألف فيه الناس. لكن نشير نحن إلى جملة يسيرة على وجه الاختصار وينتفع بها.
فمن الآلات الدواة ووزنها فعلة كالشجرة، ثم قلبت الياء ألفا فصارت كفتاة وقناة، ز الجمع دويات كقنوات ودوي كقنى. قال الشاعر:
لمن الدار كخط باللدوى؟ ... أنكر المعروف منها وأمحى
ودوي بضم الأول على فعول كما يقال قني وعصي في الجمع. قال الشاعر
عرفت الديار كرقم الدوي ... حبره الكتاب الحميري
وقال الآخر:
وكم تركت ديار الشرك تحسبها ... تلقى الدوي على أطلالها ليقا
واشتقاقها من الدواء، لأن بها صلاح أمر الكاتب. واشتقها بعض الأدباء من قولك: دوي الرجل بالكسر دوي إذا مرض فقال:
أما الدواة فأدوى حملها جسدي ... وحرف الحظ تحريف من القلم
أي أمرضه. ونحو هذا الاشتقاق لا يعتمد عليه. ويقال لصانعها مدو، كما يقال لصانع القني مقني، ولبائعها دواء كحناط لبائع الحنطة، ولحاملها داوٍ كسائف لصاحب السيف ولمتخذها مدو، وقد أدوى دواة. ولمّا تصان به صوان وغشاء وغلاف وما تسد به صمام وسداد وعفاص، وكذا غيرها يقال لصفوتها إذ أنفشت لتعمل فيها قبل أنَّ تبلّ، البوهة بالضم، وإذا بلت فهي الليقة، وقد تسمى به قبل ذلك مجازاً. ولقت الدواة فهي ملقية، وألقتها فهي ملاقة. فإنَّ كانت من قطن فهي العطبة والكرسفة، والقطن كله يقال له ذلك. ولمدادها نقس بكسر الأول، ويفتح. والمداد يذكر ويؤنث. ومددت الدواة مداً: جعلته فيها؛ وأمددتها: زدتها منه؛ واستمددت: أخذت بالقلم من المداد؛ وأمددت فلانا من دواتي: أعطيته. ويقال للدواة محبرة بالفتح لأنها محل الحبر بالكسر وهو النقس؛ ويقال لها النون والجمع أنوان ونينان؛ ويقال لها الرقيم أيضا. وأمهت الدواة وموهتها جعلت فيها ماء.
ومنها القلم، والجمع قلام وأقلام كجبال وأجبال. ويقال له المزبر والمذبر بالذال المعجمة لأنه يزبر به ويذر أي يتب وقيل الذبر، بمعنى القراءة. ويقال للقصبة يراعة وأباءة والجمع يراع واباء؛ ويقال لعقدة الكعوب: فإنَّ كانت فيه عقدة تشينه فهي الابنة؛ ولمّا بين العقد الأنابيب، وكذا في الرماح. ويقال لطرفي القلم اللذين يكتب بهما السنان والشعيرتان، والواحد سن وشعيرة. فإنَّ سويا في القطع فهو قلم مبسوط، وإنَّ جعل أحدهما أطول فهو محرف.
ومنها السكين والمقص. قال أبن عبد ربه: ينبغي للكتاب أنَّ يصلح آلته التي لا بد له منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلاّ بها، وهي دواته. فلينعم ربها وإصلاحها، وثم يتخير من أنابيب القصب أقله عقدة، وأكتافه لحما، وأصلبه قشرا، وأعد له استواء. ويجعل لقرطاسه سكينا ليكون عونا على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصب. انتهى.
ويقال السكين والمدية والمجزاة والمبراة والفالية والشلقاء بالكسر والمد، وغير ذلك ويقال المقص والمقراض والمقطع بكسر أوائلها والجلم، وأكثر ما يقال بالتثنية. قال الشاعر:
ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوت في حافاتها الجلمان
يعني لحيته. وجاء فيه الأفراد. قال سالم بن وابصة:
داويت صدرا طويلا غمرة حقداً ... منه وقلمت أظفارا بلا جلم
وقال أعرابي:
فعليك ما استطعت الظهور بلمتي ... وعلي أنَّ ألقاك بالمقراض
وأما الكتاب فهو مكتوب ويقال له الزبور والزبير والذبير. قال امرؤ القيس:
... كخط زبور في مصاحف رهبانِ
وقيل: الزبور في هذا البيت هو الكتاب وهو الظاهر. فإن كان ما يكتب فيه من جلود فهو رق وقرطاس بكسر القاف وضمها؛ وإن كان من خرق فهو كاغد بدال مهملة وروي بمعجمة. وقد يستعمل القرطاس في الكل. ويقال لمّا يكتب الصحيفة والمهرق على وزن مكرم والجمع مهارق. قال الأعشى:
ربي كريم لا يغير نعمة ... وإذا تنوشد بالمهارق أنشدا
والقضيمة. قال امرؤ القيس:
... وبين شبوبٍ كالقضيمة قرهبِ
والسجل والصك والقط. وكذا كتب الجوائز والصلات والجمع صكوك وقطوط. قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفقُ
وقال المتلمس:
ألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضللِ
فإن كتب فيها بعد محو فهي طرس. ونمقت الكتاب نمقا ونمقته تنميقا، وحبرته ورقشته وزورته تحبيرا وترقيشا وتزويرا؛ وكذا زبرجته وزخرفته زبرجة وزخرفة أي كتبته كتابة حسنة. فإذا نقطه قلت وشمه وشما، وأعجمته إعجاما ورقشته ترقيشا. قال طرفة:
كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشيمه
فاا أفسد الخط قلت مجمجه وشرمجه وهلهله ولهلهه مجمجة وشرمجة وهلهلة ولهلهة وثبجه تثبيجا. وإذا لم يبينه قلت دحمسه دحمسة ومجمجه وعقمه عقما وعقله عقلا. فإذا أدق الحرف وقارب بعضها بعض قلت قرمط وقرصع قرمطة وقرصعة. فإذا مد الحروف قلت مشق مشقا وقيل المشق سرعة الكتابة وخفتها. فإن نقص شيئا فألحقه فهو لحق وجمعه إلحاق.
قال الشاعر:
عورٌ وحولٌ وثالثٌ لهم ... كأنه بين أسطر لحقُ
فإن وضعت عليه بعد الكتب ترابا قلت تربته تتريبا وأتربته إترابا؛ أو نشارة قلت نشرته تنشيرا.
وأما البراءة فهي في الأصل مصدر قولك: برئت من الأمر بالكسر براءة أي تبرأت؛ وأما هذه البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فقال أبو محمد بن السيد رحمه الله: سميت بذلك لمعنيين: أحدهما أن يكون من قولهم برئت إليه من الدين براءة إذا أعطيته ما كان له عندك وبرئت إليه من الأمر براءة إذا تخلف عنه فكأن المرغوب إليه يتبرأ إلى الراغب مما أمله لديه ويتخلى له عما رغب فيه إليه. وقيل إنّما كان الأصل في ذلك أنَّ الجاني كان إذا جنى جناية يستحق عليها العقاب ثم عفا عنه الملك كتب له أمانا مما كان يتوقعه ويخافه فكان يقال: كتبت لفلان براءة أي أمانا ثم ضار مثلا واستعار في غير ذلك. قال: وقد جرت عادة الكتاب ألا يكتبوا في صدر البراءة: بسم الله الحمن الرحيم اقتداء بسورة براءة التي كتبت في المصحف من غير بسملة.
وأما الطبع فهو طبع الكتاب. تقول: طبعت الكتاب طبعا وختمته ختما وأفقته أفقا ومن ذلك قول الأعشى السابق: يعطي القطوط ويأفق أي يختم ويقال لمّا يطبع به طابع. قيل: وأول من طبع الكتب عمرو بن هند وذلك أنه لمّا أعطى المتلمس الصحيفة ليقتل ثم استقرأها فهرب كما سيأتي حديثه أمر عمرو بعد ذلك بالكتب تختم. فكان يؤتى بالكتاب مطبوعا فقيل من عني به فلذلك سمي العنوان عنوانا. ثم لمّا كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى ملك الروم ولم يختمه قيل له إنه لا يقرؤه إن لم يكن مختوما. فأمر أن يعمل له خاتم وينقش على فصه: محمد رسول الله فصار الختم سنة في الإسلام. وقيل أول من ختم الكتاب سليمان أبن داود عليه السلام. وقيل في تأويل قوله تعالى: إني ألقي إلي كتاب كريم أي مختوم. وأكرمت الكتاب ختمته وهو أول من افتتح كتابه بالبسملة. قيل: وكانت العرب تقول في افتتاح كتبها وكلامها. باسمك اللهم! فجري الأمر على ذلك في صدر الإسلام حتى نزلت: بسم الله مجراها ومرساها فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله حتى نزلت قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فكتب: بسم الله الرحمن. ثم نزلت: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فصارت سنة إلى يومنا هذا.
وأوّل من كتب من فلان إلى فلان رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار ذلك سنة يكتب الكتاب ويبدأ باسمه قبل اسم من يخاطبه ولا يكتب لقبا ولا كنية حتى ولي عمر بن الخطاب وتسمى بأمير المؤمنين فكتب من أمير المؤمنين عمر. فجرت السنة بذلك إلى أيام الوليد بن عبد الملك فكان الوليد أوّل من اكتنى في كتبه وأوّل من عظم الخط والكتب وجود القراطيس. ولذلك قال أبو نواس:
سبط مشارفها رقيق جطمها ... وكأن سائر خلفها بنيانُ
واحتازها لون جرى في جلدها ... يقف كقرطاس الوليد هجانُ
فجرت سنة الوليد بذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل فإنهما لمّا وليا ردا الأمر إلى ما كان عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن أحابه رضوان الله عليهم. فلما ولي مروان رجع إلى أمر الوليد فجرى الأمر عليه. ذكر ذلك أبو محمد بن السيد رحمه الله تعالى.
وأما التوقيع فهو ما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه ممن رفع إليه كالسلطان ونحوه من ولاة الأمر كما إذا رفعت إلى السلطان أو إلى الوالي شكاة فكتب تحت الكتاب أو على ظهره: ينظر في أمر هذا أو: يستوفى لهذا حقه أو نحو ذلك. فهذا توقيع.
ورفع إلى جعفر بن يحيى كتاب يشتكى فيه بعامل فكتب على ظهره: يا هذا قد قل شاكروك وكثر شاكوك فإما اعتدلت وإما اعتزلت! ورفع إلى الصاحب بن عباد كتاب فيه: إنَّ إنسانا هلك وترك يتيما وأموالا جليلة لا تصلح لليتيم وقصد الكاتب إغراء الصاحب. فأخذها فوقع الصاحب فيها: الهالك رحمه الله وو اليتيم أصلحه الله والمال ثمرة الله والساعي لعنه الله! ونحو هذا من التوقيعات. والتوقيع في الأصل التأثر في الشيء. يقال: حمار موقع الظهر أي أصابته في ظهره دبرة فسمي هذا توقيعا لنه تأثر في الكتاب حسنا أو في الأمر معنى؛ أو في الوقوع لأنه سبب لوقوع الأمر المذكور أو لأنه إقاع لذلك المكتوب: فتوقيع كذا بمعنى إيقاعه.
وأما العنوان فهو ما يجعل عليه ليستدل به عليه ويقال قيه: عنوان وعنيان بضم الأول فيهما وكسره. وأصله عنان على مثل رمان لأنّه مشتق من قولك: عن لي الأمر يعن إذا عرض لأنّه هو يعرض للكتاب من ناحية وعننه وعنونه وعناه: كتب عنوانه. ويقال فيه أيضاً علوان باللام وعلون الكتاب وعلاه تعلية: كتب عنوانه وكل ظاهر شيء استدلت به على باطنه فهو عنوان له. قال الشاعر:
رأيت لسان المرء رائد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون!
وقال الآخر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وما أصناف الكتب فكثيرة منها: كاتب التدبير وهو أجلها وأعلاها درجة وهو كاتب السلطان الذي يكتب سره؛ ومنها كاتب أرباب الأحكام وأجلها كاتب القاضي ثم كاتب صاحب المظالم ثم كاتب صاحب الديوان وهو الخراج ثم كاتب صاحب الشرطة؛ ومنها كاتب العامل وكاتب المجلس إلى غير وكل واحد منها له أحكام وآداب ذكرت في محلها.
ولهم أقلام مختلفة اصطلحوا عليها في الكتابة. انتهى. مجموعها بحسب ما ذكروا إلى أحد وعشرين وهي الجليل والسجلى ويسمى قلم الثلثين والقلم الرئاسي والنصف وخفيف النصف والثلث وخفيف الثلث والمسلسل وغبار الحلبة وصغير الغبار وهو قلم المؤامرات وقلم القصص والحوائجي والمحدث والمدمج وثقيل الطومار وخفيف الطومار والشامي ومفتح الشامي والمنثور وخفيف المنثور وقلم الجزم.
واختلف في أوّل من كتب: فقيل آدم عليه السلام كتب الصحف قبل موته بثلاثمائة سنة في طين ثم طبخه. فلما كان بعد الطوفان أصاب كل قوم كتابهم؛ وقيل أوّل من كتب إدريس عليه السلام؛ وقيل أوّل من وضع الكتابة إسماعيل عليه السلام وضعها بلفظه ومنطقه؛ وقيل أوّل من كتب قوم من الأوائل أسمائهم أبجد هوز حطي إلى آخرها. وكانوا ملوك مدين وقيل هم أبجد هوز إلى قرست ملوك مدين فوضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم وكان سيدهم كلمن فهلكوا يوم الظلة فقالت ابنة كلمن ترثيه:
كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه ... الحتف نارٌ وسط ظله
جعلت نارٌ عليهم ... دراهم كالمضمحله
ويروى أيضاً:
ألا يا شعيب قد نطقت مقالةً ... سبقت بها عمراً وحي بني عمرِ
ملوك بني حطي هوز منهم ... وسعفص أهل للمكارم والفخرِ
وقيل هم ملوك الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم عليه السلام فألقيت إلى العرب؛ وقيل أسماء ملوك الجبابرة.
وقيل أوّل من وضع الخط العربي نفر من طيء من بولان وهم: مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن حدرة. فساروا إلى مكة فتعلمه منهم شيبة بن ربيعة بن حرب بن عبد شمس وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهشام بن المغيرة المخزومي. ثم أتوا الأنبار فتعلمه نفر منهم. ثم أتوا الحيرة فتعلمه منهم جماعة منهم: سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم وولده يسموه بالكوفة بني الكاتب. ثم أتوا الشام فعلموه جماعة فانتهت الكتابة إلى رجلين من أهل الشام يقال لهما الضحاك وإسحاق بن حماد واخترع منه خطا أخف فسماه الثلثين السابق. ثم جعل الناس يختصرون ويغيرون حتى انتهى إلى ما مر. وليس هذا محل تفصيل هذا.
وأما ما قيل من الشعر في وصف الكتاب أو الأقلام أو المحابر أو تفضيل القلم على السيف أو العكس فأكثر من أن يحصى. وقد وضعت في ذلك موضوعات مستقلة. فمن مستحسن ذلك قول أبي الفتح البستي:
إن هز أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كل كمي هز عاملهُ
وإن أقر على رقٍّ أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام لهُ
وقال الآخر:
يمسك الفرس رمحا بيدٍ ... وأنا أمسك فيه قصبه
فكلانا فارسٌفي شأنه: ... إنَّ الأقلام رماحُ الكتبه
وقول الآخر:
وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأشجار يأرج بالغداةِ
بأوضاع أو بأبسط من نسيمٍ ... توديه الأفاوه من دواةِ
وقول الآخر في خلاف هذا:
دعي في الكتابة لا رويٌ ... له فيما يعد ولا بديهُ
كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبداً كريهُ!
وقول بعضهم وقد نظر إلى فتى عليه أثر المداد وهو يستره:
لا تجزعن من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتاب!
ويقال: أثر المداد دليل على الفضل حتى إنَّ عبيد الله بن سليمان رأى صفرة زعفران في ثوبه فطلاها بالحبر وقال: المداد أحسن بنا من الزعفران! وأنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوات عطر الرجالِ
وقول الآخر يهجو كاتبا:
حمارٌ في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حربٍ في زيادِ
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثوبك في المدادِ!
وقال بعضهم: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتابا فوقعت من القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه فتعجبت فقال: لا تعجب! المال فرع والقلم أصل والأصل أحوج من الفرع إلى المراعات وبهذا السواد جاءت الثياب. ثم أطرق قليلا فأنشد:
إذا ما الفكر ولد حسن لفظٍ ... وأسلمه الوجود إلى العيانِ
ووشاه فنمنمه مشدٍ ... فصيحٌ في المقال بلا لسانِ
ترى حلل البيان منشراتٍ ... تجلى بينها صور المعاني
وكتب سليمان بن وهب بقلم صلب واعتمد عليه فصر تحت يده فقال:
إذا ما التقينا وانتضينا صوارماً ... يكاد يصم السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائعٌ ... كمثل اللآلي نظمها ونثرها
تقود أبيات البيان بفطنةٍ ... يكشف عن وجه البلاغة نورها
تظل المنايا والعطايا شوارعاً ... تدور بما شئنا وتمضي أمورها
إذا ما خطوب الدهر أرخت ستورها ... تجلت بنا عما تسر ستورها
وقول أبي تمام يمدح محمد بن عبد الملك الزيات من قصيدة:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصلُ
له الخلوات اللاء لولا نجيها ... لمّا اختلفت للملك تلك المحافلُ
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنا اشتارته أيدٍ عواسلُ
له ريقٌ طل ولكن وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابلُ
فصيحٌ إذا استنطقته وهو راكبٌ ... وأعجم إن خاطبته وهو راجلُ
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافلُ
اطاعته أطراف القنى وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافلُ
إذا استغزر الذهن الذكي وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافلُ
وقد رفدته الخنصران وسددت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأناملُ
رأيت جليلاً شأنه وهو مرهقٌ ... ضنى وسميناً خطبه وهو ناحلُ
وقول أبي الفتح البستي:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب مجداً ورفعةً ... مدى الدهر أنَّ الله أقسم بالقلم
وقول البحتري:
تعنو له وزراء الملك قاطبةً ... وعادة السيف أن يستخدم القلما
وقول الآخر:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأممُ
فالموت والموت لا شيء يقابله ... ما زال يتبلع ما يجري به القلمُ
بذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أنَّ السيوف لها مذ أرهفت خدمُ
وقول أبي الطيب مناقضا لهذا:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: ... المجد للسيف ليس المجد للقلمِ
اكتب بذا أبداً بعد الكتاب لها ... فإنما نحن للأسياف كالخدمِ
وقول سليمان بن جرير النمري في نحوه:
جهابذةٌ وكتابٌ وليسوا ... بفرسان الكريهة والطعانِ
ستذكرني وتعرفني إذا ما ... تلاقى الحلقان من الباطنِ
وقول كشاجم:
هنيئاً لأصحاب السيف بطالةً ... تقضى بها أيامهم في التنعمِ!
وكم فيهم من دائم الأمن لم يرع ... بحربٍ ولم ينهد لقرن مصممِ
وكل ذوي الأقلام في كل ساعةٍ ... سيوفهم ايست تجف من الدمِ
وقول الآخر في مدح القلم وأهله:
قومٌ إذا أدخلوا الأقلام من قصبٍ ... ثم استمدوا بها ماء المنياتِ
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال بحد المشرفياتِ
وقول البحتري يمدح الحسن بن وهب ويصف أقلامه:
وإذا تألق في الني كلامه ... المصقول خلت لسانه من عضبهِ
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبهِ
فاللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربهِ
حكمٌ فسائحها خلال بنانه ... متدفق وقليلها من قلبهِ
فكأنها والسمع معقودٌ بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبهِ
وقوله أيضاً في أبن الزيات:
لتصرفت في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميدِ
في نظام من البلاغة ما شك ... امرؤ أنه نظام فريدِ
وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديدِ
ما أعيرت منه بطون القراطيس ... وما حملت طهور البريدِ
حزن مستعمل الكلام أخباراً ... وتجنبن ظلمة التعقيدِ
كالعذارى غدون في الحلل الصفر ... إذا رحن في الخطوب السودِ












مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید