المنشورات

خالف تعرف!

ونحوه قول الشاعر:
خلافا لرأي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف فتذكر!
ويظهر من هذا البيت إنَّ المثل قديم، والبيت انشده الجاحظ.
ولنلم الآن بشيء في هذا الباب. قال الشاعر:
تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأصبحت أشرب ماء نقاخا
شراب النبيئين والمرسلين ... ومن لا يحاول منه اطباخا
رأيت النبيذ يدل العزيز ... ويكسو التقي النقي اتساخا
فهبني عذرت الفتى جاهلا ... فما العذر فيه إذا المرء شاخا؟
قوله ماء نقاخا، أي بارداً عذبا صافيا، وهو بضم النون وبالقاف على مثال غراب. وقال الآخر:
نعوذ بالله من أناسٍ ... تشيخوا قبل إنَّ يشيخوا
تقوسوا وانحنوا رياء ... فأحذرهم: انهم فخوخ!
وأشار بهذا التمثل في الرياء إلى نحو ما حكي في الإسرائيليات إنَّ عصفورة على فخ فقالت له: مالي اراك منحنيا؟ قال:: لكثرة صلاتي انحنيت. قالت: فمالي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي، بدت عظامي! قالت: فما هذا الصوف عليك؟ قال: لزهادتي لبست الصوف. قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكؤ عليها وأقضي بها حوائجي. قالت: فما هذه الحبة في يدك؟ قال: قربان إنَّ مر بي مسكين أناوله إياها. قالت: فإني مسكينة. قال: خذيها! فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها، فصاحت: قعى! قعى! وتفسيره: لا غرني مراءٍ بعدك أبداً! ومما جاء في الرياء، أعاذنا الله منه!، قوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ". قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال:
" الرياء ". يقول عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم في الدنيا، فانظروا كيف تجدون عندهم الجزاء. وقوله صلى الله عليه وسلم: " من راأى، راأى الله به، ومن سمع، سمع الله به ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " من أسر سريرة ألبسه الله رداءها، خيرا فخير وإنَّ شرا فشر. والآيات والأحاديث والآثار في ذم الرياء والتنفير عنه لا تحصى وهي مشهورة. وفي معنى ذلك قول الشاعر:
وإذا أظهرت شيئاً حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسر
فمسر الخير موسم به ... ومسر الشر موسوم بشر
وقول الآخر في المتشابهين:
أهل الرياء لبستهم ناموسكم ... كالذئب يدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقستم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
وقول الآخر:
قل للأمام سنا الأئمة مالكٍ ... نور العيون ونزهة الأسماع:
لله درك من همام ماجد ... قد كنت راعينا فنعم الراعي!
فمضيت محمود النقيبة طاهرا ... وتركتنا قنصا لشر سباع
أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزلٍ ... طاوي الحشا متكفت الأضلاع
تشكوك دنيا لم تزل بك برة ... ماذا رفعت بها من الأوضاع
وقال محمود الوراق لابن أخته:
تصوف كي يقال له أمين ... وما معنى التصوف والأمانة؟
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة
وقول الآخر:
صلى وصام لأمر كان يطلبه ... ومذ حواه فما صلى ولا صاما!
وقول الآخر:
شمر ثيابك واستعد لقابل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم
وعليك بالغنوي فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيمِ!
وقول الآخر:
لا شيء أخسر صفقة من عالمٍ ... لعبت به الدنيا مع الجهالِ
فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويديه حرصاً بجمع المالِ
لا خير في كسب الحرام وقلما ... يرجى الخلاص لكاسب الحلالِ
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلةٍ ... فالفضل تسأل عنه أي سؤالِ!
وقول بعضهم وقد رأى ثم افتضح نعوذ بالله!:
بينا أنا في توبتي مفبلاً ... قد شبهوني بابن روادِ
وقد حملت العلم مستظهراً ... وحدوثوا عني بإسنادِ
الله تعالى خطر الشيطان بي جطوة ... نكست منها في أبي جادِ
وقال آخر يخاطب معزولا:
ولوك إذ علموا بجهلك منصباً ... علموا بأنك عن قليل تبرحُ
طبخوا بنار العزل قلبك بعد ذا ... وكذا القلوب على المناصب تطبخُ
وقال الآخر في حمام:
حمامكم قيمته أسود ... هربت منه وأنا صارخُ
قد سلخت جسمي أظافره ... يا قوم هذا الأسود السالخُ
وفي هذين الشعرين التورية وهي إن يذكر الشاعر لفظاله مهنيان: قريب وبعيد. ويريد البعيد نحو قوله تعالى: الرحمن على العرشِ استوى فإنَّ المراد أحد معنيي الاستواء وهو الاستيلاء قهرا وغلبة وهو المعنى الأبعد لأنّه مجاز وتسمى التورية إيهاما. فإن كان المعنيان مستويين سمي ذلك توجيها. وقد تقدم في ذلك جملة من الشعر في الأبواب السابقة ونحن نريد هنا من مستحسن ذلك قول بعضهم يهنيءبعيد النحو:
تهن بعيد النحو وابق ممتعاً ... بأمثاله سامي العلى نافذ الأمرِ!
تقلدنا فيه قلائد أنعمٍ ... واحسن ما تبدو القلائد في النحرِ
وقول الآخر:
بروحي أفدي خاله فوق خده ... وما أنا في الدنيا فأفديه بالمالِ
تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخالِ
وقول الآخر:
مهفهف القد إذا ما انثنى ... قال ولا يخشى من الود
ما أنت كفلي يا كثيب اللوى ... ولست يا غصن النقا قدي!
لو نلت من خده تقبيلةً ... تزين الريحان بالوردِ
وقول الآخر:
قلت للأهيف الذي فضح الغصن ... كلام الوشاة ما ينبغي لك
قال: قول الوشاة عندي ريحٌ ... قلت: أخشى يا غصن أن تستميلك!
وقول الآخر:
تهاون شمس الين بي وهو صاحبٌ ... وأظهر لي أضعاف ما يظهر العدا
نزلت به أبغي النا وهو طالعٌ ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندا!
وقول الآخر في حق النبي صلى الله عليه وسلم:
يا عين إن بعد الحبيب وداده ... ونأت مرابعه وشط مزارهُ
فلقد ظفرت من الزمان بطائلٍ ... إن لم تريه فهذه آثارهُ
وقول الآخر:
عاينته ودموعي غير جاريةٍ ... لأن دمعي من طول البكا نشفا
فقال: لم أدر وكف الدمع قلت له: ... حسيبك الله يا بدر الجا وكفا!
وقول الصفدي مع حسن التضمين:
ملكت كتابا أخلق الدهر جلده ... وما أحدٌ في دهره بمخلدُ
إذا عاينت كتبي الصحيحة حاله ... يقولون: لا تهلك أسى وتجلد!
وقول أبي بكر بن حجة:
عزمت على السلو لطول هجري ... فجاءتني عوارضه تعارض
وكان العذر يقبل في سلوي ... ولكن ما سلمت من العوارض
وقول البدر الدماميني:
وبي وجنةٌ حمراء زاد صفاؤها ... فأبدت صفات أبع الحسن كونها
فدع لائمي فيها عن الحب جهده ... فما أنا بالسالي صفاها ولونها
وقول أبن جعفر العسقلاني:
قد جئت في علم الأصول لنا وفي ... علم الفروع بخالص الابريز
برزت في هذا وفي هذا على ... الرازي بالإحسان والتبريزي
وقوله:
خليلي ولى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا
فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا؟
وقول المعمار:
إنَّ قام يتلو سورة الشمس المنيرة في ضحاها
يا حسنه فكأنه القمر المنير إذا تلاها
وقوله:
تملك قلبي صارم قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد
أقول لصاحبي حين يرنو بلحظه: ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي
وقول الآخر:
يا من تولى قاضيا ... هذا قضاء أم قدر؟
عذرك في نسياننا ... أنَّ القضا يعمي البصر!
وقول أبن العفيف:
ليس خليليا ولكنه ... يضرم في الأحشاء نار الخليل
يا ردفه جرت على خصره ... وفقا به ما أنت إلاّ ثقيل!
وقوله مما يكتب على كأس:
أدور لتقبيل الندامى ولم أزل ... أجود للندامى وأنفاسي
وأكسو أكف الشرب ثوبا مذهب ... فمن أجل هذا لقبوني بالكأس
وقوله في مليح خيالي:
خيالي أخاف الهجر منه ... وليس أراه يرغب في وصالي
وكنت عهدتني قدما شجاعا ... فمالي صرت أفزع من خيالي؟
وما قيل في التورية والتوجيه أكثر من إنَّ يحصى. ولولا خوف الإطالة لأوردنا من مستحسن ذلك ما يكون جزءا مستقلا، وليس ذلك من غرضنا. وأنا أذكر هنا بعض ما اتفق لي نظمه في باب التورية أو التوجيه من غير تعبئة لنزول هذا الميدان، ومطاردة هؤلاء الفرسان. فمن ذلك قولي:
بنفسي من أضحى فؤادي طائرا ... على غصن من قده اللدن ميال
على روضة من خده الخال عارض ... وأبهج روض ما علا عارض الخال
وفيه التورية بالطائر من حيث إنّه اسم فاعل أو اسم ذي الجناح على التشبيه وحرف الجر بعده للتعليل على الأول والاستعلاء على الثاني، والتوريه بالخال من حيث إنّه النقطة أو الغيم المخيل بالمطر مع الجناس بين على وعلا والعكس.
وقولي:
مررت على بالٍ من الربع دارس ... بكل ربابٍ عارض اسحم خال
ففاضت شؤون الجفن من ذكر حيرتي ... وثار هواهم إذ مررت على البال
وفيه التورية بالخال من حيث إنّه وصف للدارس من الخلو أو وصف للرباب بمعنى المخيل كما مر. والتورية بالبال آخراً من حيث إنّه راجع إلى الربع من البلى أو إنّه الفكر والخاطر ومعمول مررت عليهن محذوف عي عليه.
وقولي:
وعاذل عن الهوى عادل ... يدعو لأمر في الهوى إمر
قال أسلهم واصبر فكم ذائق ... أمر في الهجر من الصبر
وزع عنان القلب عما جرى ... عليه من بلواء أو يجري
فأي عذر في اتباع الصبا؟ ... قلت له إنَّ الهوى عذري
وفيه التورية بالصبر من حيث إنّه معناه أو إنّه المر المعروف. وأصله صبر ثم خفف بالتسكين والتورية يجري من حيث إنّه من الجريان بقرينة العنان أو إنّه من الوقوع. والمعنى عليهما واضح. والتورية بالعذر من حيث إنّه الاعتذار أضيف إلى ياء المتكلم أونسوب إلى بني عذرة، وهو الهوى الشديد، والمعيان ظاهران وقولي:
قال العذول إذ بدا ... بعارض معذر:
الوجه الاعتزال عن ... هذا الوجيه الأشعر
فقلت: ذلك الوجه ... يبقى فيه فضل نظر
وفيه التورية في الاشعر مع الاعتزال من حيث إنّه وصف كأحمر أي ذو شعر أو بياء النسبة، والتورية في النظر والوجه من حيث إنّه نظر البصر أو نظر البصيرة، والوجه وجه الحبيب أو وجه الدليل.
وقولي من قصيدة زمن الصبا أخاطب شيخنا الإمام الهمام أمتعني الله به:
وفينا معان بينت قدم الهوى ... فليس لعمري بالبديع إلى الصدر
وقد أعربت جزما بنصب أدلة ... فيرفع ما بينى على الظن من هجر
فإنَّ لم يكن عن ذلك فعلي معربا ... تغنيت بالماضي من الحال والأمر
وهذه التوريات واضحة كلها، وقد وقع لي مثل هذا النوع كثيرا ولم أذكره.
وقولي من قصيدة أخرى موريا بالعباب و " الجوهري " من كتب اللغة:
وعبرت من لجج العلوم عبابها ... حتى أنثنيت بمنفسات الجوهر
وهذه القصيدة خاطبت بها بعض فضلاء العصر. فلما وقف عليها استحسنها هو وجماعة من الفضلاء الواقفين عليها غاية. وكان من أغبياء الطلبة بعضهم من لم يرتق فهمه إلى ألفاظها، فضلاً عن معاينتها، فتعلل لنفسه القاصرة بأنها مشتملة على الوحشي من اللغة. فلما بلغني ذلك قلت:
تسامى لأذيالي مذال ولم أكن ... لكل ذليل بالذلول ولا السهل
ورام مرامات امرئ طالما علا ... على الحزن من فيح البلاغة والسهل
وأرسلتها غراء ليس يذيمها ... سوى العمي عن شمس الظهيرة والجهل
فأنكر جهلا ما حوته رسالتي ... ولا غرو فالتكذيب شان أبي جهل!
وفيه التورية بابي جهل مع الجناسات الكثيرة. والجهل بضم فسكون جمع جاهل. وتخلف بعض أصحابي عن مجلس الدرس في اليوم المسمى بالعجوز، وآخر ينير، حبسه البرد، فكتبت إليه على سبيل المطايبة:
أعجزت عنا العجوز ولم يكن ... رجل لتمنعه عجوز عائده؟
وعدلت عن أبكار فكري بكرة ... اتباع بكر بالعجوز الباردة؟
وفيه التورية بالعائدة من حيث إنّه وصف للعجوز أي صارفة وعائقة وإنّه معمول المنع بمعنى العطية والصلة، وفي العجوز أيضاً بين اليوم والمرأة بقرينة ذكر الرجل. وينشد أيضاً عجوز جالدة أو فائدة، وفي كليهما التورية: فالجالدة إما بمعنى ذات الجليد، من قولك جلدت الأرض بالكسر، تجلد فهمي جلدة والجالدة، اعتباراً للعجوز بمعنى اليوم على قصد الليلة أو الصبيحة أو البكرة؛ وإما بمعنى المدافعة والمقاتلة، من قولك جلدته بالعصا: ضربته، اعتبارا للعجوز بمعنى المرأة؛ والفائدة إما بمعنى الإفادة وهو معمول المنع، أو بمعنى الهالكة، من قولك: فاد يفيد، فيدا، إذا هلك ومات، اعتبارا للعجوز بمعنى المرأة وإنّها هرمة فانية، فكيف تغلب الرجل؟ والتورية في العجوز الباردة واضحة؟ وأعلم أنَّ التورية والتوجيه أعلى فنون البديع وأجلها وأدقها، وهو أحد معاريض البلغاء الذي يرفلون به في الحلل الرقائق، وينجون بفسحتها من المضائق. فمن أظرف ما وقع من ذلك ما روي عن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، إنّه لمّا نزل على الحيرة أتاه عبد المسيح الغساني، وهو أبن ثلاثمائة وخمسين سنة. فلما مثل بين يديه قال له: انعم صباحا أيها الأمير! فقال له خالد: قد أغنى الله عن تحيتكم بسلام عليكم. ثم قال له خالد: من أين أقصى أثرك أيّها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي. قال: من أين خرجت؟ قال من بطن أمي. قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض. قال: فيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل؟ قال: أي والله، وأقيد. قال: أبن كم أنت؟ قال: أبن رجل وامرأة. قال: كم سنك؟ قال: اثنان وثلاثون بيض ضرس وغضيض. قال: كم لك من السنين؟ قال: السنون كلها لله. قال: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني. قال: كم عمرك؟ قال: لا يعلمه إلا الله. فقال خالد: ما رأيت كاليوم إنسانا أسأله عن شيء وهو ينحوا في غيره. فقال: ما أجبتك إلا عن مسألتك. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له الأعرابي: من أنتم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، والقصة مشهورة.
وما روي من أنَّ رجلا وقف بباب المأمون ليشكو فلم يجد من يدخله فصاح: أنا أحمد المصطفى النبي المبعوث! فأخذ وأدخل على المأمون وقيل له إنّه تنبأ عن أمره فذكر شكواه فقال له: ما هذا الذي حكي عنك؟ قال: ما هو؟ قال: انهم قالوا إنك تنبأت. قال: معاذ الله! إنّما قلت: أنا أحمد المصطفى النبي المبعوث، وأنت يا أمير المؤمنين تحمده، وكذلك هؤلاء. فاستظرفه المأمون وأمر بأنصافه.
وما روي عن بشار بن برد من أنه خاط له رجل أعور يعرف بعمرو بردا فلم يعجبه فقال له:
ما هذه الخياطة؟ قال له: خطته لك كذلك لتلبسه إنَّ شئت على وجهه، وإنَّ شئت من باطنه. فقال له بشار: وأنا قد قلت فيك شعرا، إنَّ شئت جعلته مدحا وإنَّ شئت جعلته هجوا، ثم انشد:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فأحاجي الناس طرا ... أمديح أم هجاء!
ويروى:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فسل الناس جميعا ... أمديح أم هجاء!
وهو على نصب الجزأين بليت.
وما روي إنّه نشأ ببغداد غلامان أحدهما أبن حجام والآخر أبن مراق، فبرعا في الأدب. فخرجا ليلة وهما ثملان من نبيذ. فأخذهما العسس فأتوا بهما إلى صاحبهما. فلما مثلا بين يديه قال لهما: ما أخرجكما جوف الليل؟ فقالا: القدر والقضاء. فقال من أنتما؟ فقال أبن المراق:
أنا أبن الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإنَّ نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود
وقال أبن الحجام:
أنا أبن من ذلت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها
تأتيه طوعا إليه خاضعة ... يأخذ من مالها ومن دمها
فقال في نفسه: الأول من أبناء الكرام، والثاني من أبناء الملوك. فقال لأعوانه: خلوا عنهما، فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال: اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فلما انصرفا أخبر بأمرهما، فاسترجعهما بالغد وقال لهما: ويحكما! خدعتماني. فقالا: ما خدعناك إلاّ بما هو صفة والدينا. فلما تأمل كلامهما وجده صدقا وقال: انطلقا! من لم ين منكما شريف فلقد كان ظريفا. وما روي عن أبي الفرج الجوزي، رضي الله عنه، إنّه كان في مجلسه في السنية والشيعة، فسأله سائل، أي الناس كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر أم علي؟ فتغافل، فقيل ما عندك! فقال: أحبهما إليه من كانت ابنته تحته.
ويروى: أفضلهما من كانت ابنته تحته على إنَّ السؤال كان على الأفضلية. ففهم السنية أبا بكر وفهم الشيعة عليا ورضي الفريقان. ومحاسن هذا النوع أكثر من أن تحصى. وقد خرجنا عن الغرض فلنعد إلى المقصود. وقال أبو محمّد الحريري:
يقولون إنَّ جمال الفتى ... وزينته أدب راسخ
وما أن يزين سوى المكثرين ... ومن طود سودده شامخ
فأما الفقير فخير له ... من الأدب القرص والكامخ
وأي جمال له أن يقال ... أديب يعلم أو ناسخ
الكامخ: شيء يؤتدم به أو طعام يتخذ من الحنطة واللبن على أنواع والعرب كانت لا تعرفه. وقدم لأعرابي فقال: ما هذا؟ فقيل له: كامخ. فقال: مم صنع؟ فقيل: من الحنطة واللبن. فقال: أبوان كريمان وما أنجبا وقلت:
إذا المرء إن أرضيته كان لي أخا ... وإن أس عادني فما هولي بأخ
فلا خير في ود امرئ ليس صافيا ... تراه بأدران المساوي قد اتسخ
ولا خير في ود يكون تكلفا ... ولا في ودود حيث لنت له شمخ
وما الود إلاّ ما تكنفه الحشا ... متى تهزز الأحداث أغصانه رسخ
وقلت أيضاً في هذا المعنى:
ولا تبت من فتى على ثقة ... ولا يغرن حجاك من آخى
حتى تراه لدى النوائب إن ... قاضيه في الحاجات هل ساخى
وعند سعي الوشى هل ثبتت ... رجلا حشاة في الود أم ساخا
سخى الأول فاعل من السخاء وهو الكرم وساخ الثاني من ساخ يسوخ ويسيخ إذا هوى في الطين ونحوه وفيهما يكون الجناس التام.
ولنكتف بهذا القدر من هذا الباب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.











مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید