المنشورات
زعموا مطية الكذب.
الزعم: الظن، يقال: زعم كذا وكذا واقعا، يزعمه. قال: زعمتني شيخا وليس بشيخ. .
وقال كثير
وقد زعمت إني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟
ولها معان أخرى مراده هنا. والمطية: الناقة التي يركب مطاها أي ظهرها. قال امرؤ القيس:
ويوم عقرب للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل!
ويحك إنَّ أبن عمر، رضي الله عنهما، قال: رأيت رجلا يطوف بالبيت حاملا أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر!
وذكر في الصحاح أنَّ المطية تؤنث وتذكر، وانشد على التذكير لربيعة بن مقروم الضبي جاهلي
ومطية ملث الظلام بعثته ... يشكو الكلال إلي دامي الأظلل
وكان المطية على هذا هو المركوب، جملا كان أو ناقة. وجمع المطية مطي ومطايا. قال امرؤ القيس:
سريت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يفدن بأرسان
وفي الحديث رواية يشكو إنَّ يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم فلا يجدون عالما من عالم المدينة.
وقال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمبن بطون راح؟
ومنه قول إلي نؤاس:
وإذا المطي بنا بلغن محمّداً ... فظهورهن على الرجال حرام
ومنه قول أبي دلامة:
إنَّ المطايا تشكيك إذا أراد إنَّ يتحدث قال: زعموا كذا وكذا، وزعموا إنَّ الأمر كذا وإنَّ كذا واقع. فلما كان هذا اللفظ يقدمه إمام كلامه ويتوصل به إلى حاجته، جعل مطية تشبيها بالمطية المركوبة، بالجمع التواصل بهما إلى الغرض. ثم انهم قالوا: إنّما يقال هكذا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنّما يجري على الألسن، وأكثر ما يكون ذلك كذب.
وفي الحديث: حسب الرجل من الكذب أنَّ يتحدث بكل ما سمع. فجعل زعموا مطية للكذب، أي للتحديث به من اجل هذا. وقد يعتبر به من يعتمد الكذب لسهولته إذ ذاك وتستره حيث لم يتعين المكذوب عليه ولا المنقول عنه حتى يفتضح الناقل عند سؤاله.
فائدتان. الأولى قال الجلال السيوطي في كتابه الهمع: قولهم زعموا مطية الكذب لم أقف عليه شيء من كتب الأمثال. وذكر بعضهم إنّه روى: مظنة الكذب بالظاء المعجمة والنون. وإخراج أبن أبي حاتم في تفيسره، عن صفوان بن عمرو الكلابي، قال: بئس مطية المسلم زعموا مطية الشيطان. واخرج أبن سعد في الطبقات، من طريق الأعمش عن شريح القاضي قال: زعموا كنية الكذب. انتهى.
وذكر بعضهم: زعموا مطية الكذب حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: لا يوجد زعم فصيح الكلام إلاّ عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله، أو تبقى عهدته على الزاعم. ففي ذلك ما ينجوا إلى تضعيف وقول سيبويه: زعم الخليل كذا، وإنّما يجيء فيما تفرد الخليل به. انتهى.
قلت: ولم يكن يأتي به سيبويه على إنَّ ذلك كذب، بل من اجل ذلك التفرد وبقاء العهدة فقط. وقد يأتي زعم مع القطع بصدق الزاعم، كما في السير من قول سعد، رضي الله عنه، للقريشي بمكة إنَّ محمّد يزعم إنّه قاتلك، ولم يكن المخبر يش في صدق محمّد صلى الله عليه وسلم، بل أيقن القريشي مع كفره بذلك فقال: أنا لا نكذب محمّد في خبره. والقصة مشهورة.
الثانية: قول جرير السابق. قالوا: هو امدح بيت قالته العرب. وكان امتدح به عبد الملك بن مروان من قصيدة، وكان أولها أنَّ قال: أتصحو أم فؤادك غير صاح فقال عبد الملك: بل فؤادك! ثم تمادى في الإنشاد إلى إنَّ قال:
تعزت أم حزرة ثم قالت: ... رأيت الواردين ذوي امتياح
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالجناح
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح؟
فطرب الملك وأخذته الأريحية وكان متكئا فجلس وقال: من مدحنا فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت! ثم قال: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة سود الحدق؟
فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الإبل إباق ونحن مشايخ ليس بأحدنا فضل على راحلته. فلو أمرت بالرعاة؟ فأمر له بثمانية أعبد وكنت بين يدي عبد الملك صحاف فضة يقرعها بقضيب بيده. فقال جرير: والمحالب، يا أمير المؤمنين؟ وأشار إلى صفحة منها. فنبذها إليه بالقضيب. وفي ذلك قال جرير:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منٌّ ولا سرف!
قلت: وما ذكر في بيت جرير هو بحسب ما فيه من شمول بذكر العالمين، وإلاّ فلزهير أبيات هي الغرر في جبهات المديح، كقوله:
بل اذكرن خير قيس كلها حسبا ... وخيرها نائلا وخيرها خلقا
فانه يجمع أوصافا من المديح مع السبك العجيب والاتساق البديع. إلاّ إنّه خصصه بقيس وهو لا يوجب كبير قصور، لأنَّ العناية بتفضيل الممدوح وتعليته إنّما هي بحسب أقرانه ومزاحميه في الشرف، مع إنَّ هذا اقرب إلى الصدق، وليس الكذب البشع بممدوح في الشعر. إلاّ إنَّ يريد جرير رهط الممدوح جميعا حتى يدخل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون كلامة صدقا. وقوله:
إنَّ تلق يوما على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا
فإنَّه ترك إثبات السماحة والندى للممدوح إلى إثبات كونهما من سجايا وخلائقه، إيهاما لكون ثبوتهما ليس متوقف العقول، لاتضاحه كالنهار، واشتهاره غاية الاشتهار. ووقع لزهير غير هذا ولغيره أيضاً مما يطول تتبعه.
قالوا: وأهجى بيت قالته العرب قول الأخطل يهجو جريرا:
قوم إذا أستنبح الضيفان كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار!
وبعده:
فتمسك البول بخلا إنَّ تجود به ... فما تبول لهم إلاّ بمقدار!
وتقدم هذا: واحكم بيت قالته العرب قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار ما لم تزود
وأحمق بيت قول أبي محجن:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ... تروي عظامي عند عروقها!
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا مت ألا أذوقها
وأغزل بيت قالته العرب قول جرير:
إنَّ العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وبعده:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن اضعف خلق الله أركانا
قلت: وأصدق بيت قالته العرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وبعده قول الآخر:
وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمدِ
عجيبة. أبو العتاهية في شعره السابق امتدح عمر بن علاء فأمر له بسبعين ألف درهم وأمر من حضره من خدمه وغلمانه أن يخلعوا عليه حتى لم يقدر على القيام لمّا عليه من الثياب. ثم إنَّ جماعة من الشعراء كانوا بباب عمر فقال بعضهم: يا عجبا للأمير! يعطي أبا العتاهية سبعين ألفا. فبلغ ذلك عمر فقال: غليَّ بهم! فأدخلوا عليه. فقال: ما أحسد بعضكم لبعض يا معشر الشعراء! إنَّ أحدكم يأتينا يريد مدحنا فيشبب بصديقه في قصيدته بخمسين بيتا فما يبلغنا حتى يذهب لذاذة مدحه ورونق شعره. وقد أتانا أبو العتاهية فشبب ببيتين ثم قال:
إني أمنت من الزمان وريبته ... لمّا علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حر الوجوه نعلا
ما كان هذا الجود حتى كنت يا ... عمراً ولو يوماً تزول لزالا
إنَّ المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
فإذا أتيت بنا أتيت مخفة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا
ويذكر إنّه لمّا امتدحه قال له: أقم حتى أنظر في أمرك! فأقام أياما فلم ير شيئا. وكان عمر ينتظر مالا من وجه فأبطأ عليه. فكتب إليه أبو العتاهية:
يا أبن العلاء ويا أبن القرم مرداس ... إني امتدحتك في صحبي وجلاسي
أثنيت عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فاستحيي من الناس
حتى إذا قيل ما أعطاك من صفدٍ ... طأطأت من سوء حالٍ عندها رأسي
فقال عمر لحاجبه: اكفيه أياما! فقال له الحاجب كلاما دفعه به وقال: تنتظر! فكتب إليه:
أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر
أصابتك عين في سخائك صلبةٌ ... ويا رُبَّ عين صلبة تفلق الحجر
سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... فإن لم تفق منها رقيناك بالسور
فضحك عمر وقال لصاحب بيت ماله: كم عندك؟ قال: سبعون ألف درهم. فقال: ادفعها إليه! ويقال إنّه قال له: اعذرني عنده ولا تدخله عليَّ فإني أستحي منه!
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
3 مايو 2024
تعليقات (0)