المنشورات

شب عمرو عن الطوق.

الشباب: الفتاء يقال شب الغلام يشيب شباباً؛ وعمرو هو أبن عدي بن نصر اللخمي، أبن أخت جذيمة، أوّل ملوك لخم بالحيرة، بعد خاله جذيمة، كما تقدم ذلك في قتله للزباء؛ والطوق بالفتح حلي يجعل للعنق، وكل ما أستدار بالشيء. وكان من خبر عمرو في الطوق إنَّ جذيمة بلغه أنَّ غلاما من لخم يقال له عدي بن نصر عند أخواله من أيادٍ غاية في الظرف والأدب. وكان جذيمة قد أغار على أياد، فسرقت أياد صنمين كانا لجذيمة مشهورين. ثم عاهدوا على أنَّ يردوا إليه صنمية وأنَّ لا يغزوهم أبدا في قصة مشهورة. فشرط عليهم أنَّ يبعثوا مع الصنمين بالغلام الموصوف. فلما انتهى إليه ولاه مجلسه وكأسه والقيام على رأسه. فتعشقته رقاش بنت مالك، أخت جذيمة فقالت له: يا عدي، إذا سقيتهم فأمزج لهم وعرق الملك! أي امزج له قليلا كالمعروق فإذا أخذت منه الخمر فأخطبني له وأشهد الجماعة؟ ففعل الغلام، وزوجه جذيمة وأشهد عليه. فانطلق إليها وعرفها. فعلمت إنّه سينكر إذا أفاق، فقالت له: أدخل لأهلك! فبات عدي معرسا بها، وأصبح في ثياب جدد. ودخل على جذيمة فقال:
ما هذه الآثار، يا عدي؟ قال: آثار العرس. قال: أي عرس؟ قال: عرس رقاش. فنخر جذيمة وأكب لوجهه غضبا. فهرب عدي ولحق بقومه، وبقي هناك حتى مات وقيل: بل أدركه جذيمة فقتله وبعث إلى أخته رقاش يقول:
حدثيني وأنت لا تكذبيني ... أبحر زنيت أم بهجين؟
أم بعبد فأنت أله لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون؟
فقالت له: زوجتني كفئاً كريما من أبناء الملوك! وقالت تجيبه:
أنت زوجتني وما كنت أدري ... وأتاني النساء للتزيين
ذاك من شربك المدامة صرفا ... وتماديك في الصبا والمجون!
ثم إنّه جعلها في قصره، فاشتملت على حمل، فولدت وسمته عمرا ورشحته، فلما ترعرع حلته وعطرته وألبسته كسوة وأزارته خاله. فأعجب به وألقيت عليه منه محبة وقيل تبناه، وكان لا يولد له. وخرج جذيمة في عام مخصب وبسط له في روضة، وخرج عمرو بن عدي في غلمة يجنتون الكمأ، فكان منهم من وجد طيبة أكلها، وعمرو إذا أصابها خبأها. ثم أقبلوا يسرعون، وعمرو يقدمهم وهو يقول:
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه!
فالتزمه جذيمة وحباه.
ثم إنَّ الجن استهوت عمراً ففقد فطلبه جذيمة في آفاق الأرض، فلم يسمع له خبرا حتى أقبل رجلان من بلقين وهما مالك وعقيل، ابنا فالح من الشام يريدان الملك بهدية ومعهما قينة يقال لها أم عمرو. فبينما هما على ماء، وقد هيأت لهما القينة طعاما وجعلا يأكلان، إذ أقبل رجل أشعت الرأس قد طالت أظفاره وساءت حاله. فناولته القينة طعاما وسقت صاحبيها. فقال عمرو: اسقني! فقال: لا تطعم العبد الكراع، فيطمع في الذراع! وأوكت سقاءها. فقال عمرو:
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصحابك الذي لا تصحبينا!
فقالا له: من أنت يا فتى؟ قال أنا عمرو بن عدي. فأخذاه وغسلا رأسه وقلما أظفاره وأخذا من شعره وقالا: ما كنا لنهدي إلى الملك هدية هي عنده أنفس ولا هو عليها أكثر صفدا من أبن أخته! وحملاه معهما حتى بلغاه جذيمة. فسر به سروراً شديداً وصرفه إلى أمه وقال: تمنيا علي! فقلا: منادمتك، ما بقيت وما بقينا. فنادمهما. ويقال انهما أقاما في منادمه أربعين سنة يحدثانه، فما أعادا عليه حديثا. وهما ندما جذيمة المشهوران المضروب بهما المثل في شدة الألفة والمصاحبة، في قول أبي خراش:
تقول: أراه بعد عروة لا هيا ... وذلك زرء لو علمت جليل
فلا تحسبني أنَّ قد تناسيت عهده ولكن صبري يا أميم جميل
ألم تعلمي أنَّ قد تفرق قبلنا ... نديما صفاء: مالك وعقيل؟
وفي قول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكا:
وكنا كندماني جذيمة حقبه ... من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا
فلما تفرقا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا!
وفي قول بعض المحدثين:
نحن كنا في التصافي ... مثل ندماني جذيمه
فأتى الصرم بيوم ... دونه يوم حليمه
تقدح الأيام حتى ... في المودات القديمه
وكان قبل ذلك جذيمة لا ينادم أحدا، زهوا وكبرا، ويقول: هو أعظم من أن ينادم إلاّ الفرقدين! فكان يشرب كأسا ويريق للفرقدين كأسا. ثم إنَّ رقاش أخذت ابنها عمرا وأدخلته الحمام. فلما خرج ألبسته من فاخر الثياب وجعلت في عنقه طوقا من ذهب كان له، وأمرته بزيارة خاله. فلما رأى جذيمة لحيته، والطوق في عنقه، قال: شب عمرو عن الطوق! وقيل إنّها لمّا أرادت أنَّ تعيد الطوق عن عنقه قال لها جذيمة: كبر عمرو عن الطوق! فذهبت مثلا يضرب للابس ما دون قدره.











مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید