المنشورات
عاصم بن الحدثان والفرزدق
: وكان عاصم بن الحدثان عالما ذكيّا، وكان رأس الخوارج بالبصرة، وربما جاء الرسول منهم من الجزيرة يسأله عن الأمر يختصمون فيه، فمرّ به الفرزدق، فقال لابنه: أنشد أبا فراس، فأنشده:
وهم إذا كسروا الجفون أكارم ... صبر وحين تحلّل الأزرار «1»
يغشون حومات المنون وإنّها ... في الله عند نفوسهم لصغار
يمشون بالخطّيّ لا يثنيهم ... والقوم إن ركبوا الرماح تجار «2»
فقال له الفرزدق: ويحك! اكتم هذا لا يسمعه النساجون فيخرجوا علينا بحفوفهم «3» فقال أبوه: هو شاعر المؤمنين وأنت شاعر الكافرين.
ونظير هذا مما يشجّع الجبان قول عنترة الفوارس:
بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل «4»
فأجبتها: إنّ المنيّة منهل ... لا بدّ أن أسقي بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أنّي امرؤ سأموت إن لم أقتل «5»
ومن أحسن ما قالوه في الصبر، قول نهشل بن حريّ بن ضمرة النهشليّ:
ويوم كأنّ المصطلين بحرّه ... وإن لم تكن نار وقوف على جمر «6»
صبرنا له حتى يبوخ، وإنما ... تفرّج أيام الكريهة بالصّبر «7»
وأحسن من هذا عندي قول حبيب:
فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت إخمصك الحشر
تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وأحسن من هذا قوله:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا
وقوله في المعنى:
قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم ... لم يحسبوا أنّ المنيّة تخلق
انظر بحيث ترى السّيوف لوامعا ... أبدا وفوق رءوسهم تتألّق
وقال الجحّاف بن حكيم:
شهدن مع النبيّ مسوّمات ... حنينا وهي دامية الحوامي «1»
ووقعة راهط شهدت وحلّت ... سنابكهنّ بالبلد الحرام
تعرّض للطّعان إذا التقينا ... خدودا لا تعرّض للّطام
أخذه من قولهم: ضربة بسيف في عزّ، خير من لطمة في ذلّ.
ومن أحسن ما وصفت به رجال الحرب قول الشاعر «2» :
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان «3»
تلاقوا رجالا لا تحيد عن الوغى ... إذا الخيل جالت في فنا الميدان
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأيّة أرض أو لأيّ مكان
ونظير هذا قول الآخر:
قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه ربّ صواهل وقيان «4»
وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدّوا شعاع الشمس بالفرسان
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلّب العلّات بالعيدان «1»
بل يسفرون وجوههم فترى لها ... عند السّؤال كأحسن الألوان
ومن أحسن المحدّثين تشبيها في الحرب، مسلم بن الوليد الأنصاري في قوله ليزيد بن مزيد:
تلقي المنيّة في أمثال عدّتها ... كالسّيل يقذف جلمودا بجلمود
تجود بالنفس إذ ضنّ الجواد بها ... والجود بالنّفس أقصى غاية الجود
وقوله أيضا:
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنّه أجل، يسعى إلى أمل «2»
ينال بالرّفق ما تعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل
وقال أبو العتاهية:
كأنّك عند الكرّ في الحرب إنّما ... تفرّ عن السّلم الذي من ورائكا
كأنّ المنايا ليس تجري لدى الوغى ... إذا التقت الأبطال إلّا برأيكا
فما آفة الآجال غيرك في الوغى ... وما آفة الأموال غير حبائكا «3»
وقال زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أنّ سيفي ... كريه كلّما دعيت نزال
أحادثه بصقل كلّ يوم ... وأعجمه بهامات الرجال
وقال أبو محلّم السعديّ:
تقول وصكّت وجهها بيمينها ... أبعلي هذا بالرّحى المتقاعس «4»
فقلت لها لا تعجلي وتبيّني ... بلائي إذا التفّت عليّ الفوارس
ألست أردّ القرن يركب ردعه ... وفيه سنان ذو غرارين نائس «1»
إذا هاب أقوام تقحّمت غمرة ... يهاب حميّاه الألدّ المداعس «2»
لعمر أبيك الخير إنّي لخادم ... لضيفي وإنّي إن ركبت لفارس
وقال آخر يمدح المهلّب بالصبر:
وإذا جددت فكلّ شيء نافع ... وإذا حددت فكلّ شيء ضائر «3»
وإذا أتاك مهلّبيّ في الوغى ... في كفّه سيف فنعم الناصر
ومن قولنا في القائد أبي العباس في الحرب:
نفسي فداؤك والأبطال واقفة ... والموت يقسم في أرواحها النّقما
شاركت صرف المنايا في نفوسهم ... حتى تحكّمت فيها مثل ما احتكما
لو تستطيع العلا جاءتك خاضعة ... حتى تقبّل منك الكفّ والقدما
ومن قولنا في وصف الحرب:
سيوف يقيل الموت تحت ظباتها ... لها في الكلى طعم وبين الكلي شرب «4»
إذا اصطفّت الرايات حمرا متونها ... ذوائبها تهفو فيهفو لها القلب
ولم تنطق الأبطال إلّا بفعلها ... فألسنها عجم وأفعالها عرب
إذا ما التقوا في مأزق وتعانقوا ... فلقياهم طعن وتعنيقهم ضرب
ومن قولنا في رجال الحرب وأنّ الوغى قد أخذت منهم ومن أجسامهم فهي مثل السيوف في رقّتها وصلابتها:
سيف تقلّد مثله ... عطف القضيت على القضيب
هذا تجزّ به الرّقا ... ب وذا تجرّ به الخطوب
ومن قولنا أيضا:
تراه في الوغى سيفا صقيلا ... يقلّب صفحتي سيف صقيل
ومن قولنا أيضا:
سيف عليه نجاد سيف مثله ... في حدّه للمفسدين صلاح
ومن قولنا أيضا في الحرب وذكر القائد:
مقيلك تحت أظلال العوالي ... وبيتك فوق صهوات الجياد
تبختر في قميص من دلاص ... وترفل في رداء من نجاد «1»
كأنّك للحروب رضيع ثدي ... غذتك بكلّ داهية نآد «2»
فكم هذا التّمني للمنايا ... وكم هذا التّجلّد للجلاد
لئن عرف الجهاد بكلّ عام ... فإنّك طول دهرك في جهاد
وإنّك حين أبت بكلّ سعد ... كمثل الرّوح آب إلى الفؤاد
رأينا السّيف مرتديا بسيف ... وعاينّا الجواد على الجواد
وقد وصفنا الحرب بتشبيه عجيب لم يتقدّم عليه، ومعنى بديع لا نظير له، فمن ذلك قولنا:
وجيش كظهر اليمّ تنفحه الصّبا ... يعبّ عبابا من قنا وقنابل «3»
فتنزل أولاه وليس بنازل ... وترحل أخراه وليس براحل
ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كئوس دماء من كلى ومفاصل
يديرونها راحا من الرّوح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل «4»
وتسمعهم أمّ المنيّة وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل «1»
ومن قولنا في هذا المعنى:
سيف من الحتف تردّى به ... يوم الوغى سيف من الحزم
مواصلا أعداءه عن قلى ... لا صلة القربى ولا الرّحم «2»
وصل يحنّ الإلف من بغضه ... شوقا إلى الهجران والصّرم
حتى إذا نادمهم سيفه ... بكلّ كأس مرّة الطّعم
ترى حميّاها بها ماتهم ... تغور بين الجلد والعظم «3»
على أهازيج ظبا بينها ... ما شئت من حذف ومن خرم «4»
طاعوا له من بعد عصيانهم ... وطاعة الأعداء عن رغم
وكم أعدّوا واستعدّوا له ... هيهات ليس الخضم كالقضم «5»
ومن قولنا في شبهه:
كم ألحم السّيف في أبناء ملحمة ... ما منهم فوق متن الأرض ديّار «6»
وأورد النّار من أرواح مارقة ... كادت تميّز من غيظ لها النّار «7»
كأنّما صال في ثنيي مفاضته ... مستأسد حنق الأحشاء هدّار «8»
لما رأى الفتنة العمياء قد رحبت ... منها على النّاس آفاق وأقطار
وأطبقت ظلم من فوقها ظلم ... ما يستضاء بها نور ولا نار
قاد الجياد إلى الأعداء سارية ... قباّ طواها كطيّ العصب إضمار «9»
ملمومة تتبارى في ململمة ... كأنّها لاعتدال الخلق أفهار «1»
تزورّ عند احتماس الطّعن أعينها ... وهنّ من فرجات النّقع نظاّر «2»
تفوت بالثّأر أقواما وتدركه ... من آخرين إذ لم يدرك الثّار
فانساب ناصر دين الله يقدمهمّ ... وحوله من جنود الله أنصار
كتائب تتبارى حول رايته ... وجحفل كسواد الليل جرّار
قوم لهم في مكرّ اللّيل غمغمة ... تحت العجاج وإقبال وإدبار «3»
يستقبلون كراديسا مكردسة ... كما تدافع بالتّيّار تيّار «4»
من كلّ أروع لا يرعى لهاجسة ... كأنّه مخدر في الخيل هصّار «5»
في قسطل من عجاج الحرب مدّ له ... بين السماء وبين الأرض أستار
فكم بساحتهم من شلو مطّرح ... كأنه فوق ظهر الأرض إجّار «6»
كأنّما رأسه أفلاق حنظلة ... وساعداه إلى الزّندين جمّار «7»
وكم على النّهر أوصالا مفرّقة ... تقّسمتها المنايا فهي أشطار
قد فلّقت بصفيح الهند هامهم ... فهنّ بين حوامي الخيل أعشار»
ومن قولنا في الحروب:
وحومة عادرت فرسانها ... في مبرك للحرب جعجاع «9»
مستلحم بالموت مستشعر ... مفرّق للشّمل جمّاع
وبلدة صحصحت منها الرّبا ... لفيلق كالسّيل دفّاع «1»
كأنّما باضتّ نعام الفلا ... منهم بهام فوق أدراع
تراهم عند احتماس الوغى ... كأنّهم جنّ بأجراع «2»
بكلّ مأثور على متنه ... مثل مدبّ النّمل في القاع
يرتدّ طرف العين من حدّه ... عن كوكب للموت لمّاع
ومن قولنا في الحروب:
وربّ ملتفّة العوالي ... يلتمع الموت في ذراها «3»
إذا توطّت حزون أرض ... طحطحت الشّمّ من رباها «4»
يقودها منه ليث غاب ... إذا رأى فرصة قضاها
تمضي بآرائه سيوف ... يستبق الموت في ظباها «5»
بيض تحلّ القلوب سودا ... إذا انتضى عزمه انتضاها «6»
تتبعه الطّير في الأعادي ... تجني كلا العشب من كلاها «7»
أقدم إذا كاع كلّ ليث ... عن حومة الموت إذا رآها «8»
فأقحم الخيل في غمار ... تفغر بالموت لهوتاها «9»
عنت له أوجه المنايا ... فعافها القوم واشتهاها
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
4 مايو 2024
تعليقات (0)