المنشورات

الجبن والفرار

لعمرو بن معديكرب في الفزعات
: قال عمرو بن معديكرب: الفزعات ثلاث: فمن كانت فزعته في رجليه فذلك الذي لا تقلّه رجلاه، ومن كانت فزعته في رأسه فذلك الذي يفرّ عن أبويه، ومن كانت فزعته في قلبه فذلك الذي يقاتل.
وقال الأحنف: أسرع الناس إلى الفتنة، أقلهم حياء من الفرار.
وقالت عائشة أم المؤمنين: إنّ لله خلقا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها؛ فأفّ للجبناء! وقال الشاعر:
يفرّ جبان القوم عن أمّ نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الجواد عدوّه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه «1»
وقال خالد بن الوليد عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية؛ ثم هأنذا أموت حتف نفسي كما يموت العير «2» ؛ فلا نامت أعين الجبناء.
للفرار السلمي في الفرار
: ومن أشعار الفرّارين الذين حسّنوا فيها الفرار على قبحه حتى حسن، قول الفرّار السلمي «3» :
وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست أملت بها يدي «4»
وتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند «5»
هل ينفعنّي أن تقول نساؤهم ... وقتلت دون رجالها: لا تبعد
للحارث بن هشام في الفرار
: وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: ما اعتذر أحد من الفرّارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أنّي إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوّي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مرصد «6»
وهذا الذي سمعه صاحب رتبيل فقال: يا معشر العرب، حسّنتم كلّ شيء فحسن حتى الفرار.
وبعد هذا يأتي قول حسان في ذلك.
وأسلم الحارث يوم فتح مكة وحسن إسلامه، وخرج في زمن عمر إلى الشام من مكة بأهله وماله، فاتبعه أهل مكة يبكون، فرقّ وبكى وقال: أما لو كنا نستبدل دارا بدارنا، أو جارا بجارنا، ما رأينا بكم بدلا؛ ولكنها النّقلة إلى الله فلم يزل هناك مجاهدا حتى مات.
وقال آخر:
قامت تشجّعني هند وقد علمت ... أنّ الشّجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب
للحرب قوم أضلّ الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا القتل يعجبني منها ولا السّلب
وقال محمود الوراق:
أيها الفارس المشيخ المغير ... إنّ قلبي من السلاح يطير «1»
ليس لي قوّة على رهج الخي ... ل إذا ثوّر الغبار مثير «2»
واستدارت رحى الحروب بقوم ... فقتيل وهارب وأسير «3»
حيث لا ينطق الجبان من الذّعر ... ويعلو الصّياح والتّكبير
أنا في مثل ذا وهذا بليد ... ولبيب في غيره نحرير «4»
وقال أيمن بن خريم:
إنّ للفتنة ميطا بيّنا ... فرويد الميط منها يعتدل «5»
فإذا كان عطاء فأتهم ... وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها جهّالها ... حطب النّار فدعها تشتعل
لصاحب كليلة ودمنة
: ومما يحتج به الفارّون: ما قاله صاحب كليلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بدّا منه؛ لأن النفقة «1» فيه من النفس، والنفقة في غيره من المال.
أخذ هذا المعنى حبيب فنظمه في شعره حيث يقول:
كم بين قوم إنّما نفقاتهم ... مال وقوم ينفقون نفوسا
ومن الفرّارين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ فرّ من الأزارقة وكان في عشرة آلاف، وكان قد بعث إليه المهلّب: يا بن أخي، خندق على نفسك وعلى أصحابك، فإني عالم بأمر الخوارج، ولا تغترّ. فبعث إليه: أنا أعلم بهم منك، وهم أهون عليّ من ضرطة الجمل فبيّته قطريّ صاحب الأزارقة فقتل من أصحابه خمسمائة، وفرّ لا يلوي على أحد. فقال فيه الشاعر:
تركت ولداننا تدمى نحورهم ... وجئت منهزما يا ضرطة الجمل
ومن الفرارين أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد؛ فرّ يوم مرداء هجر من أبي فديك، فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام، فجلس يوما بالبصرة فقال:
سرت على فرسي «المهرجان» من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام. فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير، فلو ركبت «النّيروز» لسرت إليها في يوم واحد. فلما دخل عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلّمونه، ولا ما يلقونه من القول، أيهنّئونه أم يعزّونه؛ حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف «2» الناس له، وقالوا: ما عسى أن يقال للمنهزم؟ فسلم ثم قال: مرحبا بالصابر المخذول، الذي خذله قومه. الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا فقد تعرّضت للشهادة جهدك، ولكن علم الله حاجة أهل الإسلام إليك، فأبقاك لهم بخذلان من معك لك. فقال أمية بن عبد الله: ما وجدت أحدا أخبرني عن نفسي غيرك. وفيه يقول الشاعر:
إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد النّاب عند الثّرائد «1»
الحجاج وخيل لأمية
: أتى الحجاج بدواب من دواب أمية قد وسم على أفخاذها: «عدّة» فأمر الحجاج أن يكتب تحت ذلك: «للفرار» .
وقال أبو دلامة: كنت مع مروان»
أيام الضحاك الحروري، فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فقتله، ثم ثان، ثم ثالث. فانقبض الناس عنه، وجعل يدنو ويهدر كالفحل المغتلم «3» ، فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف؟
قال: فلما سمعت عشرة آلاف هانت عليّ الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه. فإذا عليه فرو قد بلّه المطر فارمعلّ «4» ، ثم أصابته الشمس فاقفعلّ «5» ، وله عينان تتقدان كأنّهما جمرتان؛ فلما رآني فهم الذي أخرجني، فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول:
وخارج أخرجه حبّ الطّمع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع
من كان ينوي أهله فلا رجع
فلما رأيته قنّعت رأسي ووليت هاربا ومروان يقول: من هذا الفاضح؟ لا يفوتكم! فدخلت في غمار الناس.
لأعرابي في الغزو
: وقيل لأعرابي: ألا تغزو العدوّ؟ قال: وكيف يكونون لي عدوّا وما أعرفهم ولا يعرفونني؟
وقيل للآخر: ألا تغزو العدوّ؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أخبّ «1» إليه ركضا!
لحسان يعير الحارث بن هشام
: ومما قيل في الفرّارين الجبناء من الشعر قول حسان بن ثابت يعيّر الحارث بن هشام بفراره يوم بدر، وقد تقدم ذكر ذلك:
إن كنت كاذبة الذي حدّثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبّة لم يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام «2»
ملأت به الفرجين فامتدّت به ... وثوى أحبّته بشرّ مقام
وقال بعض العراقيين في رجل أكول جبان:
إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثّرائد
وقال فيه:
ضعيف القلب رعديد ... عظيم الخلق والمنظر «3»
رأى في النوم عصفورا ... فوارى نفسه أشهر
وقال آخر:
لو جرت خيل نكوصا ... لجرت خيل ذفافه «4»
هي لا خيل رجاء ... لا ولا خيل مخافه
وقال آخر:
خرجنا نريد مغارا لنا ... وفينا زياد أبو صعصعه
فستّة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعه
ولم يقل أحد في وصف الجبن والفرار مثل قول الطرمّاح في بني تميم:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
ولو أنّ برغوثا على ظهر قملة ... رأته تميم يوم زحف لولّت
ولو جمعت يوما تميم جموعها ... على ذرّة معقولة لا شملّت «1»
وليس يعاب الشجاع والبهمة البطل بالفرّة الواحدة تكون منه خاصة لا عامة؛ كما قال زفر بن الحارث وفرّ يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه فقال:
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيّامي وحسن بلائيا «2»
ولم تر مني زلّة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبيّ ورائيا
وفرّ عمرو بن معديكرب من عباس بن مرداس وأسر أخته ريحانة: وفيها يقول عمرو:
أمن ريحانة الدّاعي السّميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع
وفرّ عن بني عبس وفيهم زهير بن جذيمة العبسي وولده شأس بن زهير وقيس بن زهير! فقال فيهم:
أجاعلة أمّ الثوير خزاية ... عليّ فراري إذ لقيت بني عبس «3»
لقيت أبا شأس وشأسا ومالكا ... وقيسا فجاشت من لقائهم نفسي «4»
لقونا فضمّوا جانبينا بصادق ... من الطعن مثل النار في الحطب اليبس
ولما دخلنا تحت فيء رماحهم ... خبطت بكفّي أطلب الأرض بالّلمس «5»
وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس
وقال أيضا:
ولقد أجمع رجليّ بها ... حذر الموت وإنّي لفرور
ولقد أعطفها كارهة ... حين للنفس من الموت هرير «1»
كلّ ما ذلك منّي خلق ... وبكلّ أنا في الرّوع جدير
وابن صبح سادرا يودعني ... ماله في الناس ما عثت مجير «2»
وقال الحارث لامرأته، وذلك أنها نظرت إليه وهو يحدّ حربة يوم فتح مكة فقالت له: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه. فقالت: ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم! ثم أنشأ يقول:
إن يقبلوا اليوم فما بي علّه ... هذا سلاح كامل وألّه «3»
وذو غرارين سريع السّله
فلما لقيهم خالد يوم الخندمة «4» انهزم الرجل، فلامته امرأته، فقال:
إنك لو شاهدت يوم الخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه
وأبو يزيد قائم كالموتمه ... ولحقتنا بالسيوف المسلمه «5»
يفلقن كلّ ساعد وجمجمه ... ضربا فلا تسمع إلّا غمغمه «6»
لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه «7»
بين ابن زياد وابن زرعة
: وكان أسلم بن زرعة وجّهه عبيد الله بن زياد لحرب أبي بلال الخارجي في ألفين، وأبو بلال في أربعين رجلا: فشدّوا عليه شدّة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه، فلما دخل على ابن زياد عنّفه في ذلك وقال: ويلك! أتمضي في ألفين وتنهزم عن أربعين؟
فخرج عنه وهو يقول: لأن يذمّني ابن زياد حيّا خير من أن يمدحني وأنا ميت- وفي رواية أخرى: أن يشتمني الأمير وأنا حيّ أحبّ إليّ من أن يدعو لي وأنا ميت. فقال شاعر الخوارج.
أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ويهزمهم بآسك أربعونا
كذبتم، ليس ذلكم كذاكم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
ومثل ذلك قول عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي، وكان فرّ يوم الحرّة من جيش مسلم بن عقبة، فلما كان أيام حصار الحجاج بمكة لعبد الله بن الزّبير جعل يقاتل أهل الشام ويقول:
أنا الذي فررت يوم الحرّه ... والشيخ لا يفر إلا مرّه
فاليوم أجزي فرّة بكرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه
فلم يزل يقاتل حتى قتل.
وأحسن ما قيل في الفرار كله ما قاله قيس بن الحطيم:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب «1»
وفرّ عتيبة بن الحارث بن هشام يوم ثبرة عن ابنه حزرة وقال:
يا حسرتي لقد لقيت حسره ... يا لتميم غشيتني عبره
نعم الفتى غادرته بثبره ... نجّيت نفسي وتركت حزره
هل يترك الحرّ الكريم بكره «2»
وفرّ أبو خراش الهذلي من فائد وأصحابه، ورصدوه بعرفات فقال:
وفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقلت وقد جاوزت أصحاب فائد ... أأعجزت أولى الخيل أم أنا أحلم
فلولا ادّراك الشرّ قامت حليلتي ... تخيّر من خطّابها وهي أيّم «1»
ولولا ادّراك الشرّ أتلفت مهجتي ... وكان خراش يوم ذلك ييتم
وفرّ خبيب بن عوف يوم مرداء هجر من أبي فديك، فقال:
بذلت لهم يا قوم حولي وقوّتي ... ونصحي وما ضمّت يداي من التبر
فلما تناهى الأمر بي من عدوكم ... إلى مهجتي ولّيت أعداءكم ظهري
وطرت ولم أحفل ملامة عاجز ... يقيم لأطراف الرّدينية السّمر
فلو كان لي روحان عرّضت واحدا ... لكلّ ردينيّ وأبيض ذي أثر «2»
رجع بنا القول إلى الفرّارين والجبناء وما قيل فيهم.
للفرزدق في خالد ابن أسيد
: فرّ خالد بن عبد الله بن أسيد عن مصعب بن الزبير يوم الجفرة بالبصرة، فقال فيه الفرزدق:
وكلّ بني السّوداء قد فرّ فرّة ... فلم يبق إلّا فرّة في است خالد
فضحتم أمير المؤمنين وأنتم ... تمرّون سودانا غلاظ السّواعد
وقيل لرجل جبان في بعض الوقائع: تقدّم. فأنشأ يقول:
وقالوا تقدّم، قلت لست بفاعل ... أخاف على فخّارتي أن تحطّما
فلو كان لي رأسان أتلفت واحدا ... ولكنّه رأس إذا راح أعقما
فلو كان مبتاعا لدى السوق مثله ... فعلت ولم أحفل بأن أتقدّما
فأوتم أولادا وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدّما
بين هند وابن زنباع
: وقالت هند بنت النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع: كيف سودك قومك وأنت جبان غيور؟ قال: أما الجبن، فإن لي نفسا واحدة فأنا أحوطها، وأما الغيرة فما أحق بها من كانت له امرأة حمقاء مثلك، مخافة أن تأتيه بولد من غيره فترمي به في حجره.
وقال كعب بن زهير:
بخلا علينا وجبنا من عدؤكم ... لبئست الخلّتان البخل والجبن













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید