المنشورات
لطيف الاستمناح
قالت الحكماء: لطيف الاستمناح سبب النجاح، والأنفس ربما انطلقت وانشرحت بلطيف السؤال، وانقبضت وامتنعت بجفاء «5» السائل؛ كما قال الشاعر:
وجفوتني فقطعت عنك فوائدي ... كالدّرّ يقطعه جفاء الحالب
وقال العتابي: إن طلبت حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه، وإياك والإلحاح عليه؛ فإنّ إلحاحك يكلم «6» عرضك ويريق ماء وجهك، فلا تأخذ منه عوّضا لما يأخذ منك؛ ولعلّ الإلحاح يجمع عليك إخلاق ماء الوجه، وحرمان النجاح؛ فإنه ربما ملّ المطلوب إليه حتى يستخف بالطالب.
وقال الحسن بن هانيء:
تأنّ مواعيد الكرام فربّما ... حملت من الإلحاح سمحا على بخل
وقال آخر:
إن كنت طالب حاجة فتجمّل ... فيها بأحسن ما طلبت وأجمل
إنّ الكريم أخا المروءة والنّهى ... من ليس في حاجاته بمثقّل
بين مروان ابن أبي حفصة وابن يزيد
: وقال مروان بن أبي حفصة: لقيت يزيد بن مزيد وهو خارج من عند المهدي فأخذت بعنان دابّته وقلت له: إني قلت فيك ثلاثة أبيات أريد بكل بيت منها مائة ألف. قال: هات لله أبوك، فأنشأت أقول:
يا أكرم الناس من عجم ومن عرب ... بعد الخليفة يا ضرغامة العرب «1»
أفنيت مالك تعطيه وتنهبه ... يا آفة الفضة البيضاء والذهب
إنّ السنان وحدّ السيف لو نطقا ... لأخبرا عنك في الهيجاء بالعجب
عبد الملك ونفر من بني أمية
: المدائني قال: قدم قوم من بني أمية على عبد الملك بن مروان، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن ممن تعرف، وحقّنا ما لا ينكر، وجئناك من بعيد، ونمتّ «2» بقريب، ومهما تعطنا فنحن أهله.
الرشيد وعبد الملك بن صالح
: دحل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال: أسألك بالقرابة والخاصة أم بالخلافة والعامة؟ قال: بل بالقرابة والخاصة. قال: يداك يا أمير المؤمنين أطلق من لساني بالمسألة، فأعطاه وأجزل له.
ودخل أبو الرّيان على عبد الملك بن مروان، وكان عنده أثيرا، فرآه خائرا «1» ، فقال: يا أبا الريان، مالك خائرا؟ قال: أشكو إليك الشرف يا أمير المؤمنين! قال:
كيف ذلك؟ قال: نسأل ما لا نقدر عليه ونعتذر فلا نعذر. قال عبد الملك: ما أحسن ما استمنحت واعتررت «2» يا أبا الريّان. أعطوه كذا وكذا.
الحجاج والشعبي
: العتّابي قال: كتب الشّعبي إلى الحجاج يسأله حاجة، فاعتلّ عليه «3» ، فكتب إليه الشّعبي: والله لا عذرتك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين. فقضى حاجته.
وكان جدّ الحجاج لأمه عروة بن مسعود الثقفي.
معاوية وابن زرارة
: العتبي قال: قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على أمير المؤمنين معاوية فقال: إني لم أزل أهزّ ذوائب الرّحال إليك، فلم أجد معوّلا إلا عليك، أمتطي الليل بعد النهار، وأسم «4» المجاهل بالآثار، يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، والمجتهد يعذر، وإذا بلغتك فقطني «5» . فقال: احطط عن راحلتك.
يزيد بن المهلب وكريز
: ودخل كريز بن زفر بن الحارث على يزيد بن المهلب فقال: أصلح الله الأمير، أنت أعظم من أن يستعان بك ويستعان عليك، ولست تفعل من الخير شيئا إلا وهو يصغر عنك وأنت أكبر منه، ولا العجب أن تفعل، ولكن العجب ألا تفعل. قال:
سل حاجتك. قال: حملت عن عشيرتي عشر ديات. قال: قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها.
حاتم الطائي وسائل حاجة
: العتبي عن أبيه قال: أتى رجل إلى حاتم الطائي فقال: إنها وقعت بيني وبين قوم ديات، فاحتملتها في مالي وأملي، فعدمت مالي وكنت أملي، فإن تحملها عني فربّ همّ قد فرجته، وغمّ كفيته، ودين قضيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمّ يومك، ولم أيأس من غدك. فحملها عنه.
خالد القسري وسائل
: المدائني قال: سأل رجل خالدا القسري حاجة، فاعتل عليه، فقال له: لقد سألت الأمير من غير حاجة. قال: وما دعاك إلى ذلك؟ قال: رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء؛ فأردت أن أتعلّق منك بحبل مودة. فوصله وحباه وأدنى مكانه.
المنصور والهجري
: الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجريّ على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين نغض فمي «1» ، وأنتم أهل البيت بركة، فلو أذنت لي فقبّلت رأسك لعل الله يشدّد لي منه! قال: اختر منها أو من الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين. أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألّا تبقى حاكّة في فمي. فضحك المنصور وأمر له بجائزة.
أبو دلف وجار له
: وذكروا أن جارا لأبي دلف ببغداد لزمه كبير دين فادح، حتى احتاج إلى بيع داره، فساوموه بها، فسألهم ألفي دينار؛ فقالوا له: إنّ دارك تساوي خمسمائة. قال:
وجواري من أبي دلف بألف وخمسمائة! فبلغ أبا دلف؛ فأمر بقضاء دينه وقال له: لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا.
قيس بن سعد وامرأة
: ووقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان.
قال: ما أحسن هذه الكناية! املأوا لها بيتها خبزا ولحما وسمنا.
المنصور وأزهر السمان
: إبراهيم بن أحمد عن الشّيباني قال: كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستترا، فكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدّث، فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر، فرحّب به وقرّبه، وقال له: ما حاجتك يا أزهر؟ قال:
داري متهدمة، وعليّ أربعة آلاف درهم، وأريد لو أن ابني محمدا بنى بعياله «1» .
فوصله باثنى عشر ألفا، وقال: قد قضينا حاجتك يا أزهر؛ فلا تأتنا طالبا. فأخذها وارتحل. فلما كان بعد سنة أتاه، فلما رآه أبو جعفر قال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال:
جئتك مسلما. قال: إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالبا. قال: ما جئت إلا مسلّما. قال: قد أمرنا لك باثنى عشر ألفا، واذهب فلا تأتنا طالبا ولا مسلّما.
فأخذها ومضى؛ فلما كان بعد سنة أتاه، فقال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: أتيت عائدا، قال: إنه يقع في خلدي أنك جئت طالبا. قال: ما جئت إلا عائدا. قال: قد أمرنا لك باثنى عشر ألفا، واذهب فلا تأتنا طالبا ولا مسلما ولا عائدا. فأخذها وانصرف؛ فلما مضت السنة أقبل، فقال له: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: دعاء كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين، جئت لأكتبه. فضحك أبو جعفر وقال: إنه دعاء غير مستجاب، وذلك أني قد دعوت الله به ألا أراك فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثنى عشر ألفا وتعال متى شئت، فقد أعيتني فيك الحيلة.
ابن المهلب وأعرابي
: أقبل أعرابي إلى داود بن المهلب فقال له. إني مدحتك فاستمع. قال: على رسلك «2» ! ثم دخل بيته وتقلّد سيفه وخرج، فقال: قل، فإن أحسنت حكّمناك، وإن أسأت قتلناك! فأنشأ يقول:
أمنت بداود وجود يمينه ... من الحدث المخشيّ والبؤس والفقر
فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان إذ شددت به أزري»
له حكم لقمان وصورة يوسف ... وحكم سليمان وعدل أبي بكر
فتى تفرق الأموال من جود كفّه ... كما يفرق الشيطان من ليلة القدر «2»
فقال: قد حكمناك؛ فإن شئت على قدرك، وإن شئت على قدري. قال: بل على قدري. فأعطاه خمسين ألفا، فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدر الأمير؟ قال:
لم يك في ماله ما يفي بقدره! قال له داود: أنت في هذه أشعر منك في شعرك. وأمر له بمثل ما أعطاه.
الرشيد وإسحاق الموصلي
: الأصمعي قال: كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل
فعالي فعال المكثرين تجمّلا ... ومالي كما قد تعلمين قليل
فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال له الرشيد: لله درّ أبيات تأتينا بها! ما أحسن أصولها وأبين فصولها، وأقلّ فضولها! يا غلام أعطه عشرين ألفا. قال: والله لا أخذت منها درهما واحدا! قال:
ولم؟ قال: لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري! قال: أعطوه أربعين ألفا. قال الأصمعي: فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني.
معاوية وزيد ابن منية
: العتبي عن أبيه قال: قدم زيد بن منية من البصرة على معاوية، وهو أخو يعلي بن منية صاحب الجمل، جمل عائشة رضي الله عنها، ومتولي تلك الحروب، ورأس أهل البصرة؛ وكانت ابنة يعلي عند عتبة بن أبي سفيان؛ فلما دخل على معاوية شكا دينه، فقال: يا كعب، أعطه ثلاثين ألفا. فلما ولّى قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفا أخرى، ثم قال له: الحق بصهرك- يعني عتبة- فقدم عليه مصر. فقال: إني سرت إليك شهرين، أخوض فيهما المتالف «1» ، ألبس أردية الليل مرّة، وأخوض في لجج السراب أخرى، موقرا «2» من حسن الظن بك، وهاربا من دهر قطم «3» ، ومن دين لزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين. فقال عتبة: إن الدهر أعاركم غنى، وخلطكم بنا ثم استردّ ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منّا ما لا ضيعة معه، وأنا رافع يدي ويدك بيد الله، فأعطاه ستين ألفا كما أعطاه معاوية.
ابن سويد وأبو ساسان
: إبراهيم الشيباني قال: قال عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف: أعدم أبي إعدامة بالبصرة وأنفض «4» ، فخرج إلى خراسان فلم يصب بها طائلا. فبينا هو يشكو تعزّر الأشياء عليه، إذ عدا غلامه على كسوته وبغلته فذهب بهما، فأتى أبا ساسان حضين ابن المنذر الرقاشي فشكا إليه حاله، فقال له: والله يا بن أخي، ما عمّك ممن يحمل محاملك، ولعلّي أن أحتال لك. فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها، ثم قال: امض بنا. فأتى باب والى خراسان، فدخل وتركني بالباب، فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال: أي عليّ بن سويد؟ فدخلت إلى الوالي، فإذا حضين على فراش إلى جانبه، فسلمت على الوالي فردّ عليّ، ثم أقبل عليه حضين فقال: أصلح الله الأمير، هذا علي ابن سويد بن منجوف سيد فتيان بكر بن وائل وابن سيد كهولها، وأكثر الناس مالا حاضرا بالبصرة وفي كل موضع ملكت به بكر بن وائل مالا، وقد تجمّل بي إلى الأمير في حاجة. قال: هي مقضية. قال: فإنه يسألك أن تمدّ يدك في ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت. قال: لا والله لا أفعل ذلك به، نحن أولى بزيادته. قال: فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها، فهو يسألك أن تحمّله حوائجك بالبصرة. قال: إن كانت حاجة فهو فيها ثقة، ولكن أسألك أن تكلّمه في قبول معونة منا؛ فإنا نحب أي يرى على مثله من أثرنا. فأقبل عليّ فقال: يا أبا الحسن، عزمت عليك ألّا تردّ على عمّك شيئا أكرمك به. فسكت. قال: فدعا لي بمال ودوابّ وكسا ورقيق، فلما خرجت قلت: أبا ساسان، لقد أوقفتني على خطة ما وقفت على مثلها قط. قال:
اذهب إليك يا بن أخي، فعمّك أعلم بالناس منك؛ إن الناس إن علموا لك غرارة «1» من مال حثوا «2» لك أخرى وإن يعلموك فقيرا تعدّوا عليك مع فقرك.
المهدي وأبو دلامة
: إبراهيم الشيباني قال: ولد لأبي دلامة ابنة ليلا، فأوقد السّراج وجعل يخيط خريطة من شقق، فلما أصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي فاستأذن عليه، وكان لا يحجب عليه، فأنشده:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عبّاس
ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس
قال له المهدي: أحسنت والله أبا دلامة، فما الذي غدا بك إلينا؟ قال: ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين. قال: فهل قلت فيها شعرا؟ قال: نعم قلت:
فما ولدتك مريم أمّ عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمّك أمّ سوء ... إلى لبّاتها وأب لئيم «3»
قال فضحك المهدي وقال: فما تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة؟ قال: تملأ هذه يا أمير المؤمنين. وأشار إليه بالخريطة بين إصبعيه. فقال المهدي: وما عسى أن تحمل هذه؟ قال: من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير. فأمر أن تملأ مالا، فلما نشرت أخذت عليهم صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم.
وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجا «1» ، فأخذ به وهو سكران، فأتي به إلى المهدي؛ فأمر بتمزيق الساج عليه وأن يحبس في بيت الدّجاج؛ فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدّجاج، صاح: يا صاحب البيت! فاستجاب له السجان، قال: مالك يا عدوّ الله؟ قال: ويلك! من أدخلني مع الدّجاج؟
قال: أعمالك الخبيثة! أتي بك أمير المؤمنين وأنت سكران، فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدّجاج. قال له: ويلك! أو تقدر على أن توقد لي سراجا وتجيئني بدواة وورق ولك سلبي «2» هذا. فأتاه بدواة وورق؛ فكتب أبو دلامة إلى المهديّ:
أمن صهباء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج
تهشّ لها النفوس وتشتهيها ... إذا برزت ترقرق في الزّجاج
وقد طبخت بنار الله حتّى ... لقد صارت من النّطف النّضاج «3»
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أقاد إلى السجون بغير ذنب ... كأنّي بعض عمّال الخراج
ولو معهم حبست لهان وجدي ... ولكنّي حبست مع الدّجاج
دجاجات يطيف بهنّ ديك ... ينادي بالصّياح إذا يناجي
وقد كانت تخبّرني ذنوبي ... بأنّي من عذابك غير ناجي
على أنيّ وإن لاقيت شراّ ... لخيرك بعد ذاك الشرّ راجي
ثم قال أوصلها إلى أمير المؤمنين. فأوصلها إليه السجّان، فلما قرأها أمر بإطلاقه وأدخله عليه، فقال له: أين بت الليلة أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج يا أمير المؤمنين.
قال: فما كنت تصنع؟ قال: كنت أقاقي معهن حتى أصبحت. فضحك المهدي وأمر له بصلة جزيلة، وخلع عليه كسوة شريفة.
بين أبي دلامة وعيسى بن موسى
: وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرّحيم
فأمّا بعد ذاك فلي غريم ... من الأنصار قبح من غريم
لزوم ما علمت لباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرّقيم «1»
له مئة عليّ ونصف أخرى ... ونصف النصف في صكّ قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم
أتوني بالعشيرة يسألوني ... ولم أك في العشيرة باللئيم
قال: فبعث إليه بمائة ألف درهم.
أبو دلف وأبو دلامة
: ولقي أبو دلامة أبو دلف في مصاد له وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه وأنشده:
إني حلفت لئن رأيتك سالما ... بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلينّ علي النبيّ محمّد ... ولتملأنّ دراهما حجري «2»
فقال: أمّا الصلاة على النبيّ فنعم، صلّى الله عليه وسلّم. وأما الدراهم، فلمّا نرجع إن شاء الله تعالى. قال: له: جعلت فداك. لا تفرق بينهما. فاستلفها له وصبّت في حجره حتى أثقلته.
أبو دلامة والمهدي
: ودخل أبو دلامة على المهدي، فأنشده أبياتا أعجب بها، فقال له: سلني أبا دلامة واحتكم وأفرط ما شئت. فقال: كلب يا أمير المؤمنين أصطاد به. قال: قد أمرنا لك بكلب، وهاهنا بلغت همتك، وإلى هاهنا انتهت أمنيتك؟ قال: لا تعجل عليّ يا أمير المؤمنين، فإنه بقي علي. قال: وما بقي عليك؟ قال: غلام يقود الكلب. قال:
وغلام يقود الكلب. قال: وخادم يطبخ الصّيد. قال: وخادم يطبخ الصيد. قال: ودار نسكنها. قال: ودار تسكنها. قال: وجارية نأوي اليها. قال: وجارية تأوي إليها.
قال: قد بقي الآن المعاش. قال: قد أقطعناك ألفي جريب «1» عامرة وألفي جريب غامرة. قال: وما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: التي لا تعمر. قال: أنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفا من فيافي بني أسد. قال: قد جعلتها كلّها لك عامرة. قال: فيأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده؟ قال: أما هذه فدعها. قال: ما منعتني شيئا أيسر على أمّ ولدي فقدا منه.
أبو دلامة والمنصور
: ودخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور يوما وعليه قلنسوة طويلة، وكان قد أخذ أصحابه بلباسها وأخذهم بلبس دراريع، عليها مكتوب بين كتفي الرجل:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
«2» وأمرهم بتعليق السيوف على أوساطهم.
فدخل عليه أبو دلامة في ذلك الزّيّ، فقال له: كيف أصبحت أبا دلامة؟ قال: بشرّ حال يا أمير المؤمنين. قال: كيف ذلك؟ ويلك. قال: وما ظنّك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه، وسيفه على استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره؟ قال:
فضحك أبو جعفر وأمر بتغيير ذلك، وأمر لأبي دلامة بصلة.
هو والمنصور أيضا
: وأوصل أبو دلامة إلى العبّاس بن منصور رقعة فيها هذه الأبيات:
قف بالديار وأيّ الدهر لم تقف ... على منازل بين السّهل والنجف
وما وقوفك في أطلال منزلة ... لولا الذي استحدثت في قلبك الكلف «1»
إن كنت أصبحت مشغوفا بجارية ... فلا وربّك لا يشفيك من شغف
ولا يزيدك إلّا العلّ من أسف ... فهل لقلبك من صبر على الأسف «2»
هذي مقالة شيخ من بني أسد ... يهدي السّلام إلى العبّاس في الصّحف
تخطّها من جواري المصر كاتبة ... قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفا وشاتية ... إلى معلّمها بالّلوح والكتف
حتى إذا ما استوى الثّديان وامتلأت ... منها وخيفت على الإسراف والقرف «3»
صينت ثلاث سنين ما ترى أحدا ... كما تصان ببحر درّة الصّدف
بينا الفتى يتمشّى نحو مسجده ... مبادرا لصلاة الصّبح بالسّدف «4»
حانت له نظرة منها فأبصرها ... مطلّة بين سجفيها من الغرف
فخرّ في التّرب ما يدري غداتئذ ... أخرّ منكشفا أو غير منكشف
وجاءه القوم أفواجا بمائهم ... لينضحوا الرجل المغشىّ بالنّطف «5»
فوسوسوا بقران في مسامعه ... خوفا من الجنّ والإنسان لم يخف ...
... شيئا، ولكنه من حبّ جارية ... أمسى وأصبح من موت على شرف
قالوا لك الخير ما أبصرت قلت لهم ... جنّيّة أقصدتني من بني خلف
أبصرت جارية محجوبة لهم ... تطلّعت من أعالي القصر ذي الشّرف
فقلت: أيّكم والله يأجره ... يعير قوّته منّي إلى ضعفي
فقام شيخ بهيّ من تجارهم ... قد طالما خدع الأقوام بالحلف
فابتاعها لي بألفي أحمر فغدا ... بها إليّ فألقاها على كتفي
فبتّ ألثمها طورا وتلثمني ... طورا ونفعل بعض الشيء في الّلحف
بتنا كذلك حتى جاء صاحبها ... يبغي الدنانير بالميزان ذي الكفف «1»
وذاك حقّ علي «زند» وكيف به ... والحقّ في طرف والعين في طرف «2»
وبين ذاك شهود لم أبال بهم ... أكنت معترفا أم غير معترف
فإن تصلني قضيت القوم حقّهم ... وإن تقل لا فحقّ القوم في تلف
فلما قرأ العباس الأبيات أعجب بها واستظرفها وقضى عنه ثمن الجارية. واسم أبي دلامة زند.
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
5 مايو 2024
تعليقات (0)