المنشورات
أجواد أهل الجاهلية
الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر: حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، وهرم بن سنان المرّي، وكعب بن مامة الإيادي.
شيء عن حاتم
: ولكن المضروب به المثل حاتم وحده، وهو القائل لغلامه يسار، وكان إذا اشتدّ البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد نارا في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضلّ الطريق ليلا فيصمد نحوه، فقال في ذلك:
أوقد فإنّ الّليل ليل قرّ ... والريح يا موقد ريح صرّ «1»
علّ يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حرّ
وقالوا: لم يكن حاتم ممسكا شيئا ما عدا فرسه وسلاحه، فإنه كان لا يجود بهما.
ومرّ حاتم في سفره على عنزة وفيهم أسير، فاستغاث بحاتم ولم يحضره فكاكه، فاشتراه من العنزيّين وأطلقه وأقام مكانه في القيد حتى أدّى فداءه.
وقالت نوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض واغبرّ أفق السماء، وراحت الإبل حدبا حدابير»
، وضنت المراضع على أولادها فما تبضّ «3» بقطرة، وحلقت «4» السنة المال وأيقنّا بالهلاك. فو الله إنا لفي ليلة صنّبر «5» بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعا: عبد الله وعديّ وسفّانة: فقام حاتم إلى الصّبيّين وقمت أنا إلى الصّبية، فو الله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعلّلني بالحديث. فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تهوّرت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد، فقال: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معوّلا إلا عليك يا أبا عديّ، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم: فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة؛ كأنها نعامة حولها رئالها؛ فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخرّ، ثم كشطه عن جلده، ودفع المدية إلى المرأة فقال لها: شأنك؛ فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يمشي في الحى يأتيهم بيتا بيتا فيقول: هبّوا أيها القوم، عليكم بالنار. فاجتمعوا والتفع في ثوبه ناحية ينظر إلينا، فلا والله إن ذاق منه مزعة وإنه لأحوج إليه منّا؛ فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلّا عظم وحافر. فأنشأ حاتم يقول:
مهلا نوار أقلّي الّلوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطي الأنس والخبلا «1»
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إنّ الجواد يرى في ماله سبلا
ورئي حاتم يوما يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدلّ عليه أضيافه وهو يقول:
أقول لابني وقد سطت يديه ... بكلبة لا يزال يجلدها «2»
أوصيك خيرا بها فإن لها ... عندي يدا لا أزال أحمدها
تدل ضيفي عليّ في غلس اللي ... ل إذا النار نام موقدها
ذكرت طيء عند عديّ بن حاتم أن رجلا يعرف بأبي الخيبريّ مر بقبر حاتم فنزل به وجعل ينادي: أبا عدي: أقر أضيافك. قال: فيقال له: مهلا ما تكلم من رمّة بالية؟ فقال: إن طيئا يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه، كالمستهزيء فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: واراحلتاه: فقال له أصحابه: ما شأنك؟
قال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليها. فتأملوا راحلته فإذا هي لا تنبعث. فقالوا: قد والله أقراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه وانطلقوا، فبينما هم في مسيرهم إذ طلع عليهم عديّ ابن حاتم ومعه جمل قد قرنه ببعيره، فقال إن حاتما جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك، وقال أبياتا ردّدها عليّ حتى حفظتها، وهي:
أبا الخيبريّ وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شتّامها
فماذا أردت إلى رمّة ... بداوية صخب هامها «3»
أتبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وأنعامها
وإنّا لنطعم أضيافنا ... من الكوم بالسيف نعتامها «1»
وأمرني بدفع راحلة عوض راحلتك، فخذها؛ فأخذها.
ولحاتم بن عبد الله أيضا:
أماويّ قد طال التجنّب والهجر ... وقد عذرتنا في طلابكم العذر
أماويّ إنّ المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذّكر
أماويّ إمّا مانع فمبيّن ... وإما عطاء لا ينهنهه الزّجر
أماويّ إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوما حلّ في مالي النّزر «2»
أماويّ ما يغنى الثّراء عن الفتى ... اذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أماويّ إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لديّ ولا خمر
تري أنّ ما أنفقت لم يك ضرّني ... وأنّ يدي مما بخلت به صفر
إذا أنا دلاني الذين يلونني ... بمظلمة زلج جوانبها غبر «3»
وراحوا سراعا ينفضون أكفّهم ... يقولون قد أدمى أضافرنا الحفر
أماويّ إنّ المال مال بذلته ... فأوّله شكر وآخره ذكر
وقد يعلم الأقوام لو أنّ حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر
فإنّي وجدّي ربّ واحد أمّه ... أجرت فلا قتل عليه ولا أسر
ولا أظلم ابن العمّ إن كان إخوتي ... شهودا وقد أودى بإخوته الدّهر
غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى ... وكلّا سقاناه بكاسيهما الدهر
فما زادنا بأوا على ذي قرابة ... غنانا، ولا أزرى بأحلامنا الفقر «4»
وأما هرم بن سنان فهو صاحب زهير الذي يقول فيه:
متى تلاق على علاته هرما ... تلق السّماحة في خلق وفي خلق
وكان سنان أبو هرم سيد غطفان، وماتت أمه وهي حامل به، وقالت: إذا أنا مت فشقّوا بطني فإن سيد غطفان فيه. فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منها سنانا. وفي بني سنان يقول زهير:
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأوّلهم أو مجدهم، قعدوا
جنّ إذا فزعوا إنس إذا أمنوا ... مرزّءون بهاليل إذا قصدوا «1»
محسّدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
وقال زهير في هرم بن سنان:
وأبيض فيّاض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغبّ نوائله «2»
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطه الذي أنت سائله
أخو ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يتلف المال نائله
أخذ الحسن بن هانيء هذا المعنى فقال:
فتى لا تغول الخمر شحمة ماله ... ولكن أياد عوّدّ وبوادي
وقال زهير في هرم بن سنان وأهل بيته:
إليك أعملتها فتلا مرافقها ... شهرين يجهض من أرحامها العلق «3»
حتى دفعن إلى حلو شمائله ... كالغيث ينبث في آثاره الورق
من أهل بيت يرى ذو العرش فضلهم ... يبنى لهم في جنان الخلد مرتفق
المطعمون إذا ما أزمة أزمت ... والطّيّبون ثيابا كلّما عرقوا
كأنّ آخرهم في الجود أوّلهم ... إنّ الشّمائل والأخلاق تتّفق
إن قامروا قمروا أو فاخروا فخروا ... أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا «4»
تنافس الأرض موتاهم إذا دفنوا ... كما تنوفس عند الباعة الورق «1»
وقال فيهم أيضا:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم حقّ من يعتفيهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل
فما كان من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء أبائهم قبل
وهل ينبت الخطّيّ إلّا وشيجه ... وتغرس إلّا في منابتها النخل «2»
وأما كعب بن مامة الإياديّ فلم يأت عنه إلا ما ذكر من إيثاره رفيقه النّمريّ بالماء حتى مات عطشا ونجا النّمريّ، وهذا أكثر من كل ما أثنى لغيره. وله يقول حبيب:
يجود بالنّفس إن ضنّ البخيل بها ... والجود بالنّفس أقصى غاية الجود
وله ولحاتم الطائي يقول:
كعب وحاتم اللذان تقسّما ... خطط العلا من طارف وتليد
هذا الذي خلف السحاب ومات ذا ... في الجدّ ميتة خضرم صنديد «3»
إلّا يكن فيها الشّهيد فقومه ... لا يسمحون به بألف شهيد
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
5 مايو 2024
تعليقات (0)