المنشورات

وفود العرب على كسرى

ابن الفطامي عن الكلبيّ قال: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم. فافتخر النعمان بالعرب وفضّلهم على جميع الأمم، لا يستثنى فارس ولا غيرها، فقال كسرى وأخذته عزة الملك: يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حال من يقدم عليّ من وفود الأمم، فوجدت الروم لها حظّ في اجتماع ألفتها، وعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، ووثيق بنيانها: وأنّ لها دينا يبيّن حلالها وحرامها ويردّ سفيهها ويقيم جاهلها.
ورأيت الهند نحوا من ذلك في حكمتها وطبّها، مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها، وطيّب أشجارها، ودقيق حسابها، وكثرة عددها. وكذلك الصين في اجتماعها. وكثرة صناعات أيديها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وفروسيّتها وهمتها، وأنّ لها ملكا يجمعها. والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش، وقلّة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضمّ قواصيهم وتدبّر أمرهم. ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة، مع أن مما يدل على مهانتها وذلّها وصغر همتها، ومحلّتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها، ومشاربها ولهوها ولذّاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفا عدّها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة؛ تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التّنوخيّة التي أسس جدّي اجتماعها، وشدّ مملكتها، ومنعها من عدوّها؛ فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإنّ لها مع ذلك آثارا ولبوسا، وقرى وحصونا، وأمورا تشبه بعض أمور الناس- يعني اليمن- ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلّة والقلّة والفاقة والبؤس، حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس.
قال النعمان: أصلح الله الملك، حقّ لأمة الملك منها أن يسمو فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها. إلا أنّ عندي جوابا في كل ما نطق به الملك، في غير ردّ عليه، ولا تكذيب له، فإن أمّنني من غضبه نطقت به.
قال كسرى: قل فأنت آمن.
قال النعمان: أمّا أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل، لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها، وبسطة محلّها، وبحبوحة عزّها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت، فأيّ أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها.
قال كسرى: بماذا؟
قال النعمان: بعزّها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها:
فأما عزّها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوّخوا البلاد، ووطّدوا الملك، وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجنّتهم «1» السيوف، وعدّتهم الصبر. إذ غيرها من الأمم إنما عزّها الحجارة والطين وجزائر البحور.
وأما حسن وجوهها وألوانها فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند، والصين المنحفة، والترك المشوّهة، والروم المقشّرة.
وأما أنسابها وأحسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أوّلها، حتى إنّ أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيا فلا ينسبه ولا يعرفه وليس أحد من العرب إلا يسمّي آباءه أبا فأبا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه: ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه.
وأما سخاؤها، فإنّ أدناهم رجلا الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه «1» في حموله وشبعه وريّه، فيطرقه الطارق «2» الذي يكتفي بالفلذة «3» ويجتزيء بالشّربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر.
وأما حكمة ألسنتهم فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفهم بالأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعفّ النساء، ولباسهم أفضل اللباس ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع «4» ، ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد قفر.
وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسّكون به، حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرا حرما، وبلدا محرما، وبيتا محجوجا ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغبته منه، فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى.
وأما وفاؤها، فإنّ أحدهم يلحظ اللحظة ويوميء الإيماءة فهي ولث «5» وعقدة لا يحلّها إلا خروج نفسه، وإنّ أحدهم ليرفع عودا من الأرض فيكون رهنا بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلا استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما خفر من جواره؛ وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله.
وأما قولك أيها الملك: يئدون أولادهم، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج.
أما قولك: إنّ أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارا له، فعمدوا إلى أجلّها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم مع أنها أكثر البهائم شحوما، وأطيبها لحوما، وأرقّها ألبانا، وأقلها غائلة، وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من الّلحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه.
وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم؛ فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفا وتخوّفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمّتهم: وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطف «1» بالعسف.
وأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى جدّ الملك وليّها الذي أتاه عند غلبة الحبش له على ملك متّسق؛ وأمر مجتمع؛ فأتاه مسلوبا طريدا مستصرخا، وقد تقاصر عن إيوائه، وصغر في عينه ما شيّد من بنائه. ولولا ما وتر «2» به من يليه من العرب لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار.
قال: فعجب كسرى لما أجابه النعمان به؛ وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك ولما هو أفضل. ثم كساه من كسوته، وسرّحه إلى موضعه من الحيرة.
فلمّا قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفيّ وحاجب بن زرارة التميميّين، وإلى الحارث ابن عباد وقيس بن مسعود البكريّين، وإلى خالد بن جعفر، وعلقمة بن معد يكرب الزّبيدي، والحرث بن ظالم المرّي؛ فلما قدموا عليه في الخورنق، قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات تخوّفت أن يكون لها غور، وأن يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولا «1» كبعض طماطمته «2» في تأديتهم الخراج إليه، كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله.
فاقتصّ عليهم مقالات كسرى وما ردّ عليه؛ فقالوا: أيها الملك، وفّقك الله، ما أحسن ما رددت، وأبلغ ما حججته به؛ فمرنا بأمرك، وادعنا إلى ما شئت.
قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوّف من ناحيتكم، وليس شيء أحبّ إليّ مما سدّد الله به أمركم، وأصلح به شأنكم، وأدام به عزّكم؛ والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أنّ العرب الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أنّ العرب على غير ما ظن أو حدّثته نفسه؛ ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم السلطان، كثير الأعوان مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا «3» له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك، تظهر به وثاقة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظمة أخطاركم؛ وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، لسنيّ حاله، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها؛ فإنما دعاني إلى التّقدمة بينكم علمي بميل كل رجل منكم على التقدم قبل صاحبه؛ فلا يكوننّ ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعنا؛ فإنه ملك مترف، وقادر مسلّط.
ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائق حلل الملوك، كل رجل منهم حلّة، وعمّمه عمامة، وختّمه بياقوتة؛ وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجيبة، وكتب معهم كتابا:
أما بعد، فإن الملك ألقى إليّ من أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم بما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها، وحمت ما يليها بفضل قوّتها، تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزّز بها ذو والحزم والقوة والتدبير والمكيدة. وقد أوفدت أيها الملك رهطا من العرب؛ لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم؛ فليسمع الملك، وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم.
فخرج القوم في أهبهتم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان، فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسا يسمع منهم. فلما أن كان بعد ذلك بأيام، أمر مرازبته «1» ووجوه أهل مملكته، فحضروا وجلسوا على كراسيّ عن يمينه وشماله؛ ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وضعهم النعمان بها في كتابه؛ وأقام التّرجمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام.
فقام أكثم بن صيفيّ فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمّها نفعا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها.
الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشرّ لجاجة «2» ، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء. آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر. حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي.
من فسدت بطانته كان كالغاصّ بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها. شر الملوك من خافه البريء. المرء يعجز لا المحالة. أفضل الأولاد البررة. وخير الأعوان من لم يراء «1» بالنصيحة. أحقّ الجنود بالنصر من حسنت سريرته. يكفيك من الزاد ما بلّغك المحلّ. حسبك من شرّ سماعة. الصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة الإيجاز. من شّدد نفر، ومن تراخى تألف.
فتعجب كسرى من أكثم، ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه.
قال أكثم: الصدق ينبيء عنك لا الوعيد.
قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى.
قال أكثم: ربّ قول أنفذ من صول.
ثم قام حاجب بن زرارة التميمي، فقال ورى زندك، وعلت يدك، وهيب سلطانك. إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرّتها «2» ، ومنعت درّتها «3» ؛ وهي لك وامقة «4» ما تألفتها، مسترسلة ما لا ينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة. نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك؛ ذمّتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة؛ إن نؤب لك حامدين خيرا فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نخص بالذمّ دونها.
قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها.
قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها.
قال كسرى: وذلك.
ثم قام الحارث بن عباد البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظّها، وعلوّ ثنائها. من طال رشاؤه كثر متحه «1» ، ومن ذهب ماله قلّ منحه. تناقل الأقاويل يعرّف اللّب؛ وهذا مقام سيوجف «2» بما ينطق فيه الرّكّب، وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب؛ ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون، خيولنا جمّة، وجيوشنا فخمة، إن استنجدتنا فغير ربض «3» ، وإن استطرقتنا فغير جهض»
، وإن طلبتنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكّر لدهر، رماحنا طوال، وأعمارنا قصار.
قال كسرى: أنفس عزيزة، وأمة والله ضعيفة.
قال الحارث: أيها الملك، وأنى يكون لضعيف عزّة، أو لصغير مرّة؟
قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك.
قال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرّرا بنفسه على الموت، فهي منية استقبلها، وحياة استدبرها؛ والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدما، وأحبسها وهي تصرّف بهم، حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحى، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصّر عن خوض خضاخضها «5» ، حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكا لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دما، وأترك حماتها جزر السباع وكلّ نسر قشعم «6» .
ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟
قالوا: فعاله أنطق من لسانه.
قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدا أحشد، ولا شهودا أوفد.
ثم قام عمرو بن الشريد السّلمي فقال: أيها الملك نعم بالك، ودام في السرور حالك؛ إنّ عاقبة الكلام متدبّرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير ثقلة، وفي قليل بلغة، وفي الملوك سورة العزّ «1» ، وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل، لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرّض لرفدك. إنّ في أموالنا مرتقدا، وعلى عزنا معتمدا؛ إن أورينا نارا أثقبنا، وإن أود «2» دهر بنا اعتدلنا، إلا أنّا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون، حتى يحمد الصّدر، ويستطاب الخبر.
قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمّك.
قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديا، وبأيسر إفراطي مخبرا، ولم يلم من عزفت «3» نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ.
قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به. اجلس.
ثم قام خالد بن جعفر الكلابيّ فقال: أحضر الله الملك إسعادا، وأرشده إرشادا؛ إنّ لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غصة، وعيّ المنطق أشدّ من عيّ السكوت، وعثار القول أنكى من عثار الوعث «4» ، وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوى، وغصة المنطق بما لا نهوى غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أنني له مطيق أحبّ إليّ من تكلّفي ما أتخوّف ويتخوفّ مني. وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان. أنفسنا بالطاعة لك باخعة «5» ، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة.
قال له كسرى: نطقت بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل.
ثم قام علقمة بن علاثة العامريّ فقال: أنهحت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد: إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج؛ وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه. إنّا وإن كانت المحبّة أحضرتنا، والوفادة قرّبنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب «1» عنك، بل لو قست كلّ رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا، لوجدت له في آبائه دنيا أندادا وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسودد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف، يحمى حماه، ويروى نداماه، ويذود أعداه؛ لا تخمد ناره، ولا يحترز منه جاره. أيها الملك، من يبل العرب يعرف فضلهم؛ فاصطنع العرب، فإنها الجبال الرواسي عزّا، والبحور الزواخر طميّا «2» ، والنجوم الزواهر شرفا، والحصى عددا؛ فإن تعرف لهم فضلهم يعزوّك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك.
قال كسرى- وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه: حسبك، أبلغت وأحسنت.
ثم قام قيس بن الشّيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنّبك المصائب، ووقاك مكروه الشّصائب «3» ؛ ما أحقّنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقدا في قلبك؛ لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنّا في المنطق غير محجمين، وفي اليأس غير مقصرين؛ إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين.
قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين. وهو يعرّض به في تركه الوفاء بضمانه السّواد «4» .
قال قيس: أيا الملك، ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به، أو كخافر «1» أخفر بذمته.
قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة.
قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما خفر من ذمتي، أحقّ بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك، وانتهك من حرمتك.
قال كسرى: ذلك، لأن من ائتمن الخانة، واستنجد الأثمة، ناله من الخطأ ما نالني، وليس كلّ الناس سواء؛ كيف رأيت حاجب بن زرارة لم يحكم قواه فيبرم، ويعهد فيوفى، ويعد فينجز؟
قال: وما أحقّه بذلك وما رأيته إلا لي.
قال كسرى: القوم يزل فأفضلها أشدّها.
ثم قام عامر بن الطّفيل العامريّ فقال: كثر فنون المنطق، وليس القول أعمى من حندس «2» الظّلماء، وإنما الفخر في الفعال، والعزّ في النجدة؛ والسّودد مطاوعة القدرة. وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا؛ وبالحري «3» إن أدالت الأيام، وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أمورا لها أعلام.
قال كسرى: وما تلك الأعلام؟
قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمر يذكر.
قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟
قال: مالي علم بأكثر مما خبّرني به مخبر.
قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطّفيل؟
قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح طاعن.
قال كسرى: فإن أتاك آت من جهة عينك العوراء ما أنت صانع؟
قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عيث «1» ولكن مطاوعة العيث.
ثم قام عمرو بن معد يكرب الزّبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النّجعة الارتياد، وغفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقّف الخبرة خير من اعتساف الحيرة، فاجتبذ «2» طاعتنا بلفظك، واكتظم «3» بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك «4» يسلس لك قيادنا، فإنّا أناس لم يوقس «5» صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضما، ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضما.
ثم قام الحارث بن ظالم المرّي فقال: إنّ من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق «6» ، ومن خطل الرأي خفة الملك المسلّط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك عن ائتلاف، وانقيادنا لك عن تصاف، ما أنت لقبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل أو زلل.
قال كسرى: من أنت؟
قال: الحارث بن ظالم.
قال: إن في أسماء آبائك لدليلا على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر.
قال الحارث: إنّ في الحق مغضبة، والسّرو التغافل «1»
، ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة، فلتشبه أفعالك مجلسك.
قال كسرى: هذا فتى القوم.
ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفنّن فيه متكلّموكم ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقّف أودكم، ولم يحكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على طباعكم، لم أجز لكم كثيرا مما تكلمتم به. وإني لأكره أن أجبّه «2»
وفودي أو أحنق صدورهم، والذي أحبّ هو إصلاح مدبركم، وتألف شواذّكم، والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم؛ وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب. وصفحت عما كان فيه من خلل؛ فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامّة.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید