المنشورات
وفود قريش على سيف بن ذي يزن بعد قتله الحبشة
نعيم بن حمّاد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثّوري، قال: قال ابن عباس: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه،فأتاه وفد قريش، فيهم: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وأسد بن عبد العزّى، وعبد الله بن جدعان، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال له غمدان، وله يقول أبو الصلت، والد أمية ابن أبي الصلت:
لم يدرك الثأر أمثال ابن ذي يزن ... لجّج في البحر للأعداء أحوالا «1»
أتى هرقل وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده القول الذي قالا «2»
ثم انثنى نحو كسرى بعد تاسعة ... من السّنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... إنك عمري لقد أسرعت إرقالا «3»
من مثل كسرى وبهرام الجنود له ... ومثل وهرز يوم الجيش إذ جالا
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا
صيدا جحاجحة، بيضا خصارمة ... أسدا تربّب في الغابات أشبالا «4»
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... غادرت أوجههم في الأرض أفلالا»
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
ثم اطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا «6»
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «7»
فطلبوا الإذن عليه، فأذن لهم، فدخلوا، فوجدوه متضمّخا بالعنبر، يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، وسيفه بين يديه، والملوك عن يمينه وشماله، وأبناء الملوك والمقاول.
فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام، فقال له: قل. فقال: إنّ الله تعالى أيها الملك أحلّك محلا رفيعا صعبا منيعا، باذخا «1»
شامخا؛ وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعزّت جرثومته «2»
، ونبل أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن؛ فأنت أبيت الّلعن رأس العرب، وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه. نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمّته وسدنة «3»
بيته، أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة.
قال: من أنت أيها المتكلم.
قال: أنا عبد المطلب بن هاشم.
قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فأدناه وقرّبه؛ ثم أقبل عليه وعلى القوم وقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا «4»
، يعطي عطاء جزلا.
فذهبت مثلا.
وكان أول ما تكلم به قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم فأهل الشرف والنباهة أنتم، ولكم القربى ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم.
قال: ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجريت عليهم الأنزال. فأقاموا ببابه شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف. ثم انتبه إليهم انتباهة، فدعا بعبد المطلب من بينهم، فخلا به وأدنى مجلسه، وقال: يا عبد المطلب، إني مفوّض إليك من سرّ علمي أمرا غيرك كان لم أبح له به، ولكنّني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه؛ فليكن مصونا حتى يأذن الله فيه؛ فإنّ الله بالغ أمره: إني أجد في العلم المخزون؛ والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا، خبرا عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة، للناس كافة، ولرهطك عامة، ولنفسك خاصة.
قال عبد المطلب: مثلك أيها الملك من برّ وسرّ وبشّر، ما هو؟ فداك أهل الوبر، زمرا بعد زمر.
قال ابن ذي يزن: إذا ولد مولود بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، إلى يوم القيامة.
قال عبد المطلب: أبيت اللعن، لقد أبت بخير ما آب به أحد؛ فلولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سرورا.
قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جدّه وعمه؛ قد وجدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منّا أنصارا، يعزّ بهم أولياءه، ويذلّ بهم أعداءه، ويفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض «1»
؛ يخمد النّيران، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمن، قوله حكم وفصل؛ وأمره حزم وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطلب: طال عمرك، ودام ملكك، وعلا جدّك، وعز فخرك؛ فهل الملك يسرّني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟
فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الطّنب، والعلامات والنّصب، إنك يا عبد المطلب، لجدّه من غير كذب. فخرّ عبد المطلب ساجدا.
قال ابن ذي يزن: ارفع رأسك؛ ثلج صدرك، وعلا أمرك؛ فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟
قال عبد المطلب: أيها الملك، كان لي ابن كنت له محبا، وعليه حدبا مشفقا،فزوجته كريمة من كرائم قومه، يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة، فيه كلّ ما ذكرت من علامة؛ مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمّه.
قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود؛ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم سبيلا، اطو ما ذكرت لك، دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النّفاسة، من أن تكون لكم الرّياسة، فيبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون وأبناؤهم. ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره؛ فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته؛ ولولا أني أتوقّى عليه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنّه أمره، وأوطأت أقدام العرب عقبه؛ ولكني صارف إليك ذلك عن غير تقصير مني بمن معك.
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد، وعشر إماء سود، وخمسة أرطال فضة، وحلّتين من حلل اليمن، وكرش «1»
مملوءة عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره.
فما حال الحول حنى مات ابن ذي يزن، فكان عبد المطلب بن هشام يقول: يا معشر قريش، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره العقبي. فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر بعد حين.
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
6 مايو 2024
تعليقات (0)