المنشورات
وفود قيلة على النبي صلّى الله عليه وسلّم
خرجت قيلة بنت مخرمة التميمية تبغي الصّحبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمّ بناتها، وهو أثوب بن أزهر، قد انتزع منها بناتها، فبكت جويرية منهن حديباء قد أخذتها الفرصة «1» ، عليها سبيّج من صوف، فرحمتها فذهبت بها. فبينما هما ترتكان «2» الجمل إذ انتفخت منه الأرنب؛ فقالت الحديباء: الفصية. والله لا يزال كعبك أعلى من كعب أثوب. ثم سنح الثعلب، فسمّته اسما غير الثعلب نسيه ناقل الحديث. ثم قالت فيه مثل ما قالت في الأرنب، فبينما هما ترتكان الجمل إذ برك الجمل وأخذته رعدة. فقالت الحديباء: أخذتك والأمانة إخذة أثوب. قالت قيلة:
فقلت لها: فما أصنع، ويحك! قالت: قلّبي ثيابك ظهورها لبطونها، وادّحرجي ظهرك لبطنك، وقلّبي أحلاس «3» جملك. ثم خلعت سبيّجها فقلبته، ثم ادحرجت ظهرها لبطنها، فلما فعلت ما أمرتني به انتفض الجمل، ثم قام فنأج «4» وبال، فقالت: أعيدي عليه أداتك. ففعلت، ثم خرجنا نرتك، فإذا أثوب يسعى وراءنا بالسيف صلتا، فوألنا إلى حواء ضخم فداراه، حتى ألقى الجمل إلى رواقه الأوسط، وكان جملا ذلولا، واقتحمت داخله وأدركني بالسيف، فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسيه؛ ثم قال: ألقي إليّ ابنة أخي يادفار «5» . فألقيتها إليه. فجعلها على منكبه وذهب بها.
وكنت أعلم به من أهل البيت، وخرجت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فينما أنا عندها تحسب أني نائمة، إذ جاء زوجها من السامر، فقال لها: وأبيك لقد وجدت لقيلة صاحب صدق. قالت أختي: من هو؟
قال: حريث بن حسّان الشّيباني، وافد بكر بن وائل عاويا ذا صياح. فقالت أختي:
الويل لي، لا تخبرها فتتبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها، ليس معها أحد من قومها. قال: لا ذكرته.
قالت: وسمعت ما قالا: فغدون إلى جملي فشددت عليه، ثم نشدت عنه فوجدته غير بعيد. فسألته الصّحبة فقال: نعم وكرامة، وركابه مناخة عنده.
قالت: فسرت معه صاحب صدق؛ حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة: قد أقيمت حين شق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل؛ فصففت مع الرجال؛ وأنا امرأة قريبة عهد بجاهلية؛ فقال الرجل الذي يليني من الصف: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: لا بل امرأة. فقال:
إنك كدت تفتنيني، فصلّي في النساء وراءك. فإذا صفّ من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته إذ دخلت؛ فكنت فيهن؛ حتى إذا طلعت الشمس دنوت؛ فجعلت إذا رأيت رجلا ذا رواء وذا قشر «1» طمح إليه بصري لأرى رسول الله فوق الناس، حتى جاء رجل؛ فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله. وعليه تعني النبي صلّى الله عليه وسلّم- أسمال ملّيتين، كانتا مزعفرتين وقد نفضتا؛ ومعه عسيّب نخلة مقشوّ «2» غير خوصتين من أعلاه: وهو قاعد القرفصاء. فلما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متخشّعا في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال جليسه: يا رسول الله، أرعدت المسكينة. فقال رسول الله، ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره: يا مسكينة، عليك السكينة.
قالت: فلما قالها صلّى الله عليه وسلّم أذهب الله ما كان دخل في قلبي من الرعب.
وتقدّم صاحبي أول رجل فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين تميم كتابا بالدّهناء لا يجاوزها إلينا منهم إلا مسافر أو مجاوز.
قال: يا غلام، اكتب له بالدّهناء.
قالت: فلما رأيته أمر بأن يكتب له؛ شخص بي. وهي وطني وداري؛ فقلت: يا رسول الله؛ إنه لم يسألك السويّة من الأرض إذ سألك؛ إنما هذه الدهناء مقيّد الجمل ومرعى الغنم؛ ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك. فقال: أمسك يا غلام، صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر. ويتعاونان على الفتّان «1» .
فلما رأى حريث أن قد حيل دون كتابه، قال كنت أنا وأنت كما قال في المثل:
حتفها تحمل ضأن بأظلافها! فقلت: أما والله ما علمت إن كنت لدليلا في الظلماء، جوادا لدى الرّحل، عفيفا عن الرفيقة حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن لا تلمني أن أسأل حظي إذ سألت حظّك. قال: وأيّ حظ لك في الدهناء لا أبالك.
قلت مقّيد جملي تريده لجمل امرأتك! فقال: لا جرم إني أشهد رسول الله أني لك أخ ما حييت؛ إذ أثنيت عليّ عنده. فقلت: أمّا إذ بدأتها فلن أضيعها.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيلام ابن هذه أن يفصل الخطة، وينتصر من وراء الحجزة. فبكيت ثم قلت: فقد والله ولدته يا رسول الله حراما، فقاتل معك يوم الرّبذة، ثم ذهب يمتري من خيبر، فأصابته حمّاها فمات فقال: لو لم تكوني مسكينة لجررناك على وجهك. أيغلب أحيدكم على أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا، فإذا حال بينه وبينه من هو أولى به استرجع ثم قال: ربّ آسني لما أمضيت، وأعنّي على ما أبقيت. فو الذي نفس محمد بيده إنّ أحدكم ليبكي فيستعبر له صويحبه؛ فيا عباد الله لا تعذّبوا إخوانكم ثم كتب لها في قطعة أدم أحمر: لقيلة والنسوة من بنات قيلة يظلمن حقّا، ولا يكرهن على منكح، وكل مؤمن مسلم لهن نصير أحسنّ ولا تسئن.
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
6 مايو 2024
تعليقات (0)