المنشورات

وفود عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان

قال بديح: وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، وكان زوّج ابنته أم كلثوم من الحجاج على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية، وحملها إليه إلى العراق، فمكثت عنده ثمانية أشهر. قال بديح: فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان، خرجنا معه حتى دخلنا دمشق، فإنا لنحطّ رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة وردة ومعه الناس، فقلنا: جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله. فاستقبله ابن جعفر بالترحيب، فقال له: لكن أنت لا مرحبا بك ولا أهلا! فقال: مهلا يا بن أخي، فلست أهلا لهذه المقالة منك. قال: بلى، ولشرّ منها، قال: وفيم ذلك؟ قال: إنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة بني عبد مناف، ففرشتها عبد ثقيف يتفخّذها. قال: وفي هذا عتب عليّ يا بن أخي؟ قال: وما أكثر من هذا؟ قال: والله إنّ أحق الناس أن لا يلومني في هذا لأنت وأبوك؛ إن كان من البلكم من الولاة ليصلون رحمي، ويعرفون حقي، وإنك وأباك منعتماني ما عند كما حتى ركبني من الدّين ما والله لو أن عبدا مجدّعا حبشيّا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوّجتها؛ فإنما فديت بها رقبتي من النار. قال: فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه، ومضى حتى دخل على عبد الملك- وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه- فلما رآه عبد الملك قال: مالك أبا العباس؟ قال: إنك سلّطت عبد ثقيف وملّكته ورفعته حتى تفخّذ نساء عبد مناف، وأدركته الغيرة. فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يعزم عليه ألّا يضع كتابه من يده حتى يطلّقها ... فما قطع الحجّاج عنها رزقا ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا. قال: وما زال واصلا لعبد الله بن جعفر حتى هلك. قال بديح: فما كان يأتي علينا هلال إلا وعندنا غير مقبلة من الحجاج، عليها لطف وكسوة وميرة، حتى لحق عبد الله بن جعفر بالله.
ثم استأذن ابن جعفر على عبد الملك، فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب، ثم أخذ بيده فأجلسه معه على سريره، ثم سأله فألطف المسألة، حتى سألة عن مطعمه ومشربه. فلما انقضت مسألته، قال له يحيى بن الحكم: أمن خبثة كان وجهك يا أبا جعفر؟ قال: وما خبثة؟ قال: أرضك التي جئت منها. قال: سبحان الله، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسميها طيبة وتسميها خبثة؟ لقد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين.
فلما خرج من عنده هيّأ له ابن جعفر هدايا وألطافا. فقلت لبديح: ما قيمة ذلك؟ قال: قيمته مائة ألف. من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز. قال: فبعثني بها، فدخلت عليه وليس عنده أحد. فجعلت أعرض عليه شيئا شيئا. قال: فما رأيت مثل إعظامه لكل ما عرضت عليه من ذلك، وجعل يقول كلما أريته شيئا: عافى الله أبا جعفر! وما رأيت كاليوم، وما نريد أن يتكلف لنا شيئا من هذا، وإن كنا لمتذمّمين محتشمين. قال: فخرجت من عنده وأذن لأصحابه.
والله لبينا أنا عند بن جعفر أحدّثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه لما أهدى إليه، إذا بفارس قد أقبل علينا، فقال أبا جعفر، إن أمير المؤمنين يقرأ السلام عليك، ويقول لك: جمعت له وخش رقيق الحجاز وأبّاقهم وحبست عنا فلانة، فابعث بها إلينا- وذلك أنه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدّثهم عن هدايا ابن جعفر ويعظمها عندهم، فقال له يحيى بن الحكم: وماذا أهدى إليك ابن جعفر؟ جمع لك وخش رقيق الحجاز وأبّاقهم وحبس عنك فلانة. قال: ويلك، وما فلانة هذه؟
قال: ما لم يسمع واد أحد بمثلها قطّ جمالا وكمالا وخلقا وأدبا، لو أراد كرامتك بعث بها إليك. قال: وأين تراها. وأين تكون؟ قال: هي والله معه، وهي نفسه التي بين جنبيه- فلما قال الرسول ما قال، وكان ابن جعفر في أذنه بعض الوقر، إذا سمع ما يكره تصامّ، فأقبل عليه فقال: ما يقول يا بديح؟ قال: قلت: فإنّ أمير المؤمنين يقرأ السلام ويقول: إنه جاءني بريد من ثغر كذا يقول: إن الله نصر المسلمين وأعزهم. قال: اقرأ أمير المؤمنين السلام، وقل له: أعز الله نصرك، وكبت عدوك.
فقال الرسول: يا أبا جعفر، إني لست أقول هذا. وأعاد مقالته الأولى. فسألني فصرفته إلى وجه آخر. فأقبل عليّ الرسول، فقال: يا ماصّ ... أبرسل أمير المؤمنين تهكّم، وعن أمير المؤمنين تجيب هذا الجواب؟ أما والله لأطلّنّ دمك. فانصرف، وأقبل عليّ بن جعفر فقال: من ترى صاحبنا؟ قال: صاحبك بالأمس. قال: أظنه! فما الرأي عندك؟ قلت: يا أبا جعفر، قد تكلّفت له ما تكلفت، فإن منعتها إياه جعلتها سببا لمنعك، ولو طلب أمير المؤمنين إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إياه. قال: ادعها لي فلما أقبلت. رحّب بها ثم أجلسها إلى جنبه، ثم قال: أما والله ما كنت أظن أن يفرق بيني وبينك إلا الموت. قالت: وما ذاك؟ قال: إنه حدث أمر، وليس والله كائنا فيه إلا ما أحببت، جاء الدهر فيه بما جاء. قالت: وما هو؟ قال:
إن أمير المؤمنين بعث يطلبك. فإن تهوى فذاك، وإلا والله لم يكن أبدا. قالت: ما شيء لك فيه هوى ولا أظنّ فيه فرجا عنك إلا فديته بنفسي، وأرسلت عينها بالبكاء. فقال لها: أما إذا فعلت فلا ترينّ مكروها: فمسحت عينيها، وأشار إليّ فقال: ويحك يا بديح استحثها قبل أن تتقدّم إليّ من القوم بادرة. قال: ودعا بأربع وصائف ودعا من صاحب نفقته بخمسمائة دينار، ودعا مولاة له كانت تلي طيبه، فدحست لها ربعة عظيمة مملوءة طيبا، ثم قال: عجّلها ويلك. فخرجت أسوقها حتى انتهيت إلى الباب؛ وإذا الفارس قد بلّغ عني، فما تركني الحجّاب أن تمس رجلاي الأرض حتى أدخلت على عبد الملك وهو يتلظّى، فقال لي يا ماصّ، وكذا أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إيذن لي أتكلم. قال: وما تقول يا كذا وكذا؟ قلت: إيذن لي جعلني الله فداك أتكلم. قال:
تكلم. قلت: يا أمير المؤمنين، أنا أصغر شأنا، وأقل خطرا من أن يبلغ كلامي من أمير المؤمنين ما أرى، وهل أنا إلا عبد من عبيد أمير المؤمنين، نعم، قد قلت ما بلغك، وقد يعلم أمير المؤمنين إنّما نعيش في كنف هذا الشيخ، وأنّ الله لم يزل إليه محسنا، فجاءه من قبلك شيء ما أتاه قطّ مثله، إنما طلبت نفسه التي بين جنبيه، فأجبت بما بلغك لأسهّل الأمر عليه؛ ثم سألني فأخبرته واستشارني فأشرت عليه، وها هي ذه قد جئتك بها. قال: أدخلها ويلك! قال: فأدخلتها عليه وعنده مسلمة ابنه، غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضرّ شاربه. فلما جلست وكلّمها أعجب بكلامها، فقال: لله أبوك، أمسكك لنفسي أحبّ إليك أم أهبك لهذا الغلام، فإنه ابن أمير المؤمنين، قالت: يا أمير المؤمنين، لست لك بحقيقة، وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجها. قال: فقام من مكانه ما راجعها، فدخل، وأقبل عليها مسلمة فقال:
يا لكاع «1» ، أعلى أمير المؤمنين تختارين؟ قالت: يا عدوّ نفسه إنما تلومني أن اخترتك؟ لعمر الله لقد قال رأي من اختارتك. قال: فضيّقت والله مجلسه. واطّلع علينا عبد الملك قد ادهن بدهن وارى الشيب، وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب، بيده مخصرة «2» يخطر بها، فجلس مجلسه على سريره، ثم قال: إيها، لله أبوك، أمسكك لنفسي أحبّ لك أم أهبك لهذا الغلام؟ قالت: ومن أنت أصلحك الله؟ قال لها الخصيّ: هذا أمير المؤمنين! قالت: لست مختارة على أمير المؤمنين أحدا. قال: فأين قولك آنفا؟ قالت: رأيت شيخا كبيرا، وأرى أمير المؤمنين أشبّ الناس وأجملهم، ولست مختارة عليه أحدا، قال: دونكها يا مسيلمة قال بديح، فنشرت عليه الكسوة والدنانير التي معي، وأريته الجواري والطّيب. قال: عافى الله ابن جعفر! أخشي ألا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة؟ فقلت: بلى، ولكنه أحبّ أن يكون معها ما تكتفي به حتى تستأنس. قال: فقبضها مسلمة، فلم تلبث عنده إلا يسيرا حتى هلكت.
قال بديح: فو الله الذي ذهب بنفس مسلمة، ما جلست معه مجلسا ولا وقفت موقفا أنازعه فيه الحديث، إلا قال: ابغني مثل فلانة. فأقول: ابغني مثل ابن جعفر.
قال: فقلت لبديح: ويلك! فما أجازه به؟ قال: قال حين دفع إليه حاجته ودينه:
لأجيزنك جائزة لو نشر لي مروان من قبره ما زدته عليها. فأمر له بمائة ألف. وايم الله إني لا أحسبه أنفق في هديته ومسيره ذلك وجاريته التي كانت عدل نفسه مائتي ألف.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید