المنشورات

وفود كثير والأحوص ونصيب على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

حماد الراوية قال: قال لي كثير عزّة: ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر؟ قلت:
نعم. قال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم، ونحن لا نشك أن سيشركنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام خناصرة «3» ، لقينا مسلمة بن عبد الملك، وهو يومئذ فتى العرب، فسلّمنا فردّ، ثم قال: ما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر؟ قلنا: ما توضّح إلينا خبر حتى انتهينا إليك. ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا. فقال: إن يك ذو دين بني مروان قد وليّ وخشيتم حرمانه، فإن ذا دنيانا قد بقي، ولكم عندي ما تحبون، وما ألبث حتى أرجع إليكم وأمنحكم ما أنتم أهله.
فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرام منزول عليه؛ فأقمناه عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره، فلا يؤذن لنا؛ إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته، كان ذلك رأيا. ففعلت، فكان مما حفظت من كلامه: «لكل سفر زاد لا محالة، فتزوّدوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعدّ الله له من ثوابه أو عقابه، فترغبوا وترهبوا، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوّكم في كلام كثير لا أحفظه، ثم قال:
«أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي، وتظهر عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق» ! ثم بكى حتى ظننت أنه قاض نحبه، وارتجّ المسجد وما حوله بالبكاء، وانصرفت إلى صاحبيّ فقلت لهما: خذا في شرج «1» من الشّعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه؛ فإن الرجل آخريّ وليس بدنيوي.
إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة بعد ما أذن للعامة. فلما دخلت سلّمت ثم قلت: يا أمير المؤمنين، طال الثّواء وقلّت الفائدة، وتحدّث بجفائك إيانا وفود العرب.
قال: يا كثيّر، إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ
«2» أفي واحد من هؤلاء أنت؟
قلت: بلى، ابن سبيل منقطع به، وأنا صاحبك. قال: ألست صاحب أبي سعيد؟
قلت: بلى، قال: ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعا به. قلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الإنشاد؟ قال: نعم، ولا تقل ولا تقل إلا حقا. فقلت:
وليت فلم تشتم علياّ ولم تخف ... برياّ ولم تقبل إشارة مجرم
وصدّقت بالفعل المقال مع الذي ... أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه ... من الأود الباقي ثقاف المقوّم «1»
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها ... تراءى لك الدنيا بكفّ ومعصم «2»
وتومض أحيانا بعين مريضة ... وتبسم عن مثل الجمان المنظّم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنّما ... سقتك مدوفا من سمام وعلقم «3»
وقد كنت من أجبالها في ممنّع ... ومن بحرها في مزيد الموج مفعم
وما زلت تواقا إلى كلّ غاية ... بلغت بها أعلى البناء المقوّم
فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن ... لطالب دنيا بعده من تقدّم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقا ... وآثرت ما يبقى برأي مصمّم
وأضررت بالفاني وشمّرت للذي ... أمامك في يوم من الشرّ مظلم
ومالك إذا كنت الخليفة مانع ... سوى الله من مال رغيب ولادم
سما لك همّ في الفؤاد مؤرّق ... بلغت به أعلى المعالي بسلّم
فما بين شرق الأرض والغرب كلّها ... مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني ... بأخذ لدينار ولا أخذ درهم
ولا بسط كفّ لامريء غير مجرم ... ولا السّفك منه ظالما ملء محجم
ولو يستطيع المسلمون لقسّموا ... لك الشّطر من أعمارهم غير ندّم
فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
قال: فأقبل عليّ وقال: إنك مسئول عما قلت. ثم تقدّم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد، فقال: قل، ولا تقل إلا حقّا. فقال:
وما الشّعر إلا حكمة من مؤلّف ... بمنطق حقّ أو بمنطق باطل
فلا تقبلن إلّا الذي وافق الرّضا ... ولا ترجعنّا ءالنّساء الأرامل
رأيناك لم تعدل عن الحقّ ممنة ... ولا شأمة فعل الظّلوم المخاتل «4»
ولكن أخذت الحقّ جهدك كلّه ... تقدّ مثال الصالحين الأوائل
فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا ... ومن ذا يردّ الحقّ من قول قائل
ومن ذا يردّ السّهم بعد مضائه ... على فوقه إذ عار من نزع نابل «1»
ولولا الذي قد عوّدتنا خلائف ... غطاريف كانوا كالّليوث البواسل
لما وخدت شهرا برحلي شملّته ... تقدّ متان البيد بين الرّواحل «2»
ولكن رجونا منك مثل الذي به ... حبينا زمانا من ذويك الأوائل
فإن لم يكن للشّعر عندك موضع ... وإن كان مثل الدّرّ في نظر قائل
وكان مصيبا صادقا لا يعيبه ... سوى أنه يبنى بناء المنازل
فإنّ لنا قربى ومحض مودّة ... وميراث آباء مشوا بالمناصل
فذادوا عدوّ السلم عن عقر دارهم ... وأرسوا عمود الدين بعد التّمايل
وقبلك ما أعطى الهنيدة جلّة ... على الشعر كعبا من سديس وبازل «3»
رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضّحى والأصائل
فقال: إنك مسئول عما قلت. ثم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد؛ فلم يأذن له، وأمره بالغزو إلى دابق. فخرج إليها وهو محموم. وأمر لي بثلاثمائة، وللأحوص بمثلها، ولنصيب بمائة وخمسين.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید