المنشورات

لتميم بن جميل بين يدي المعتصم:

قال أحمد بن أبي دواد: ما رأينا رجلا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله، إلا تميم بن جميل؛ فإنه كان تغلّب على شاطيء الفرات؛ وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، ودخل عليه، فلما مثل بين يديه، دعا بالنّطع والسيف، فأحضرا، فجعل تميم بن جميل ينظر إليها ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيما وسيما، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره. فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فأدل بها.
فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كلّ شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الالسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب، وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بامتنانك، وأشبههما بخلائقك. ثم أنشأ يقول:
أرى الموت بين السّيف والنطع كامنا ... يلاحظني من حيثما أتلفّت
وأكبر ظنّي أنّك اليوم قاتلي ... وأيّ امريء ممّا قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت «1»
يعزّ على الأوس بن تغلب موقف ... يسلّ عليّ السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنّني ... لأعلم أنّ الموت شيء موقّت
ولكنّ خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتّت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الرّدى عنهم وإن متّ موّتوا
فكم قائل لا يبعد الله روحه ... وآخر جذلان يسرّ ويشمت
قال: فتبسم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب، فقد غفرت لك الصبوة «2» ، وتركتك للصبّية.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید