المنشورات

توسط مسلمة بين هشام والكميت:

كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم ويعرّض ببني أمية، فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة، لا يستقرّ به القرار من خوف هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام حاجة في كلّ يوم يقضيها له ولا يردّه فيها. فلما خرج مسلمة بن عبد الملك يوما إلى بعض صيوده، أتى الناس يسلّمون عليه، وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
قف بالدّيار وقوف زائر ... وتأنّ إنّك غير صاغر
حتى انتهى إلى قوله:
يا مسلم بن أبي الولي ... د لميّت إن شئت ناشر «1»
علقت حبالي من حبا ... لك ذمّة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أمّي ... ة والأمور إلى المصاير
والآن كنت به المصي ... ب كمهتد بالأمس حائر
فقال مسلمة: سبحان الله! من هذا الهندكيّ الجلحاب «2» ، الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام، ثم أما بعد، ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت ابن زيد.
فأعجب به لفصاحته وبلاغته. فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول عيبته. فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه؛ فضمن له مسلمة أمانه، وتوجه به حتى أدخله على هشام، وهشام لا يعرفه. فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الحمد لله- قال هشام: نعم، الحمد لله، يا هذا- قال الكميت: مبتديء الحمد ومبتدعه، الذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته؛ أحمده حمد من علم يقينا، وأبصر مستبينا؛ وأشهد له بما شهد به لنفسه قائما بالقسط، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده العربيّ، ورسوله الأميّ، أرسله والناس في هبوات «1» حيرة، ومدلهمّات ظلمة، عند استمرار أبهة الضلال، فبلّغ عن الله ما أمر به، ونصح لامته، وجاهد في سبيله، وعبد ربّه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم.
«ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة، وحرت في سكرة، ادلأمّ «2» بي خطرها، وأهاب بي داعيها، وأجابني غاويها؛ فاقطوطيت «3» إلى الضلالة، وتسكّعت في الظّلمة والجهالة، حائرا عن الحق، قائلا بغير صدق. فهذا مقام العائذ، ومنطق التائب، ومبصر الهدى بعد قول العمى، ثم يا أمير المؤمنين، كم من عاثر أقلتم عثرته، ومجترم عفوتم عن جرمه.
فقال له هشام وأيقن أنه الكميت: ويحك! من سنّ لك الغواية وأهاب بك في العماية؟
قال: «الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزما. وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحابا متفرّقا، فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم، وهدر رعده، وتلألأ برقه؛ فنزل الأرض فرويت واخضلّت واخضرت وأسقيت، فروي ظمآتها، وامتلأ عطشانها. فكذلك نعدّك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس «1» فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم، فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب، إذا احمرّت الحدق، وعضّت المغافر بالهام «2» . عزّ بأسك، واستربط جأشك، مسعار هتّاف، وكافّ بصير بالأعداء، مغري الخيل بالنّكراء، مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب، وحلم مصيب. فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء، وتمّم عليه النعماء. ودفع به الأعداء.
فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید