المنشورات

فضيلة العلم

لعلي بن أبي طالب:
حدثنا أيوب بن سليمان قال: حدثنا عامر بن معاوية عن أحمد بن عمران الأخنس عن الوليد بن صالح الهاشمي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الكوفي، عن أبي مخنف، عن كحيل النّخعي، قال: أخذ بيدي عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فخرج بي إلى ناحية الجبّانة، فلما أصحر «1» تنفّس الصّعداء، ثم قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها فاحفظ عني ما أقول لك:
الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كلّ ناعق، مع كلّ ريح يميلون، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
يا كميل، العلم خير من المال: العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، ومنفعة المال تزول بزواله.
يا كميل، محبة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه.
يا كميل، مات خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ها إن ها هنا لعلما جمّا- وأشار بيده إلى صدره- لو وجدت له حملة، بلى أجد لقنا «2» غير مأمون عليه، يستعمله آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على أوليائه، وبنعمه على عباده؛ أو منقادا لحملة الحقّ ولا بصيرة له في أحنائه «1» ، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أو منهوما باللذة، سلس القياد للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شبها بهما الأنعام السائمة. كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله إما ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته؛ وكم ذا، وأين؟ أولئك والله الأقلّون عددا؛ والأعظمون عند الله قدرا؛ بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها نظراءهم؛ ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الإيمان حتى باشروا روح اليقين؛ فاستلانوا ما استخشن المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالرفيق الأعلى.
يا كميل، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه. شوقا إليهم.
انصرف إذا شئت.
قيل للخليل بن أحمد: أيهما أفضل: العلم أو المال؟ قال العلم. قيل له: فما بال العلماء يزدحمون على أبواب الملوك والملوك لا يزدحمون على أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بحقّ الملوك وجهل الملوك بحق العلماء.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «فضل العلم خير من فضل العبادة» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «إنّ قليل العمل مع العلم كثير، كما أنّ كثيره مع الجهل قليل» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله «2» ، ينفون عنه تحريف القائلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» .
وقال الأحنف بن قيس: كاد العلماء أن يكونوا أربابا، وكلّ عز لم يؤكّد بعلم فإلى ذلّ ما يصير.
وقال أبو الأسود الدؤلي: الملوك حكام على الدنيا، والعلماء حكام على الملوك.
وقال أبو قلابة: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء: من تركها ضلّ، ومن غابت عنه تحيّر.
وقال سفيان بن عيينة: إنما العالم مثل السراج: من جاءه اقتبس «1» من علمه، ولا ينقصه شيئا، كما لا ينقص القابس من نور السراج شيئا.
وفي بعض الأحاديث: إن الله لا يقتل نفس التقّي العالم جوعا.
وقيل للحسن بن أبي الحسن البصري: بم صارت الحرفة مقرونة مع العلم، والثروة مقرونة مع الجهل؟ فقال: ليس كما قلتم، ولكن طلبتم قليلا في قليل فأعجزكم؛ طلبتم المال وهو قليل، في أهل العلم وهم قليل، ولو نظرتم إلى من احترف من أهل الجهل لوجدتموهم أكثر.
وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
«2» ووَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
«3» .
وقيل: لا تمنعوا العلم أهله فتظلموهم، ولا تعطوه غير أهله فتظلموه. ولبعضهم:
من منع الحكمة أربابها ... أصبح في الحكم لهم ظالما
وواضع الحكمة في غيرهم ... يكون في الحكم لها غاشما
سمعت يوما مثلا سائرا ... وكنت في الشعر له ناظما
لا خير في المرء إذا ما غدا ... لا طالبا علما ولا عالما
وقيل لبعض العلماء. كيف رأيت العلم؟ قال: إذا اغتممت سلوتي، وإذا سلوت لذتي.
وأنشد لسابق البربري:
العلم يزن وتشريف لصاحبه ... والجهل والنّوك مقرونان في قرن «4»
ولغيره:
وإذا طلبت العلم فاعلم أنّه ... حمل فأبصر أيّ شيء تحمل
وإذا علمت بأنّه متفاضل ... فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل
الأصمعي قال: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل، والخامس نشره.
ويقال: العالم والمتعلم شريكان، والباقي همج.
وأنشد:
لا ينفع العلم قلبا قاسيا أبدا ... ولا يلين لفكّ الماضغ الحجر
وقال معاذ بن جبل: تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، وبذله لأهله قربة. والعلم منار سبيل أهل الجنة، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدّث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والزّين عند الأخلاء، والسلاح على الأعداء. يرفع الله به قوما فيجعلهم قادة أئمة، تقتفى آثارهم، ويقتدى بفعالهم.
والعلم حياة القلب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظّلمة، وقوة الأبدان من الضعف؛ يبلغ بالعبد منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة؛ الفكر فيه يعدل الصيام، ومذاكرته القيام، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام.
ولابن طباطبا العلويّ:
حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه
يلوم على أن رحت في العلم طالبا ... أجّمع من عند الرجال فنونه
فأملك أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه «1»
ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید