المنشورات

البلاغة وصفتها

قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلّغك الجنّة وعدل بك عن النار. قال السائل: ليس هذا أريد. قال: فما بصّرك مواضع رشدك، وعواقب غيّك. قال:
ليس هذا أريد. قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن أن يسمع لم يحسن أن يسأل، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول. قال: ليس هذا أريد. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا معشر النبيين بكاء- أي قليلو الكلام، وهو جمع بكيء. وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله- قال السائل:
ليس هذا أريد. قال: فكأنك تريد تخيّر الألفاظ في حسن إفهام؟ قال: نعم. قال:
إنك إن أردت تقرير حجّة الله في عقول المكلّفين وتخفيف المئونة على المستمعين، وتزيين المعاني في قلوب المستفهمين، بالألفاظ الحسنة، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الناطقة عن الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: إيجاز الكلام، وحذف الفضول، وتقريب البعيد.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال ألّا يؤتى القائل من سوء فهم السامع، ولا يؤتى السامع من سوء بيان القائل.
وقال معاوية لصحار العبديّ: ما البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تبطيء، وتصيب فلا تخطيء. ثم قال: أقلني «1» يا أمير المؤمنين. قال: قد أقلتك. قال: ألّا تبطيء ولا تخطيء.
قال أبو حاتم: استطال الكلام الأول فاستقال وتكلم بأوجز منه.
وسمع خالد بن صفوان رجلا يتكلم ويكثر، فقال: اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بخفة اللسان وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى والقصد إلى الحجة فقال له:
أبا صفوان، ما من ذنب أعظم من اتفاق الصّنعة.
وتكلم ربيعة الرأي يوما فأكثر، وإلى جنبه أعرابيّ، فالتفت إليه فقال: ما تعدّون البلاغة يا أعرابيّ؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب. قال: فما تعدّون العيّ؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم، فكأنما ألقمه حجرا.
ومن أمثالهم في البلاغة قولهم: يقل الحزّ ويطبّق المفصل. وذلك أنهم شبهوا البليغ الموجز الذي يقل الكلام ويصيب الفصول والمعاني، بالجزار الرفيق الذي يقلّ حزّ اللحم ويصيب مفاصله.
ومثله قولهم:
يضع الهناء مواضع النّقب
أي لا يتكلم إلا فيما يجب فيه الكلام، مثل الطالي الرفيق الذي يضع الهناء مواضع النّقب. والهناء: القطران. والنّقب: الجرب.
وقولهم: قرطس «1» فلان فأصاب الثغرة، وأصاب عين القرطاس. كل هذا مثل للمصيب في كلامه الموجز في لفظه.
قيل للعتابي: ما البلاغة؟ قال: إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق.
وقيل لأعرابيّ: من أبلغ الناس؟ قال: أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: نشر الكلام بمعانيه إذا قصر، وحسن التأليف له إذا طال.
وقيل لآخر ما البلاغة؟ فقال: قرع الحجة ودنوّ الحاجة.
وقيل لآخر ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل «2» .
قيل لغيره: ما البلاغة؟ قال: إقلال في إيجاز، وصواب مع سرعة جواب.
قيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
وقيل لبعضهم: من أبلغ الناس؟ قال: من ترك الفضول واقتصر على الإيجاز.
وكان يقال: رسول الرجل مكان رأيه، وكتابه مكان عقله.
وقال جعفر بن محمد عليه السلام: سمّي البليغ بليغا لأنه يبلغ حاجته بأهون سعيه.
وسئل بعض الحكماء عن البلاغة فقال: من أخذ معاني كثيرة فأدّاها بألفاظ قليلة، وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظا كثيرا، فهو بليغ.
وقالوا: البلاغة ما حسن من الشعر المنظوم نثره، ومن الكلام المنثور نظمه.
وقالوا: البلاغة ما كان من الكلام حسنا عند استماعه، موجزا عند بديهته.
وقيل: البلاغة لمحة دالّة على ما في الضمير.
وقال بعضهم: إذا كفاك الايجاز فالإكثار عيّ، وإنما يحسن الإيجاز إذا كان هو البيان.
ولبعضهم:
خير الكلام قليل ... على كثير دليل
والعيّ معنى قصير ... يحويه لفظ طويل
وقال بعض الكتاب: البلاغة معرفة الفصل من الوصل. وأحسن الكلام القصد وإصابة المعنى.
قال الشاعر:
وإذا نطقت فلا تكن أسرا ... واقصد فخير الناس من قصدا «1»
وقال آخر:
وما أحد يكون له مقال ... فيسلم من ملام أو أثام «2»
وقال:
الدهر ينقص تارة ويطول ... والمرء يصمت مرّة ويقول
والقول مختلف إذا حصّلته ... بعض يردّ وبعضه مقبول
وقال:
إذا وضح الصواب فلا تدعه ... فإنّك كلّما ذقت الصوابا ...
وجدت له على الّلهوات بردا ... كبرد الماء حين صفا وطابا «3»
وقال آخر:
ليس شأن البليغ إرساله القو ... ل بطول الإسهاب والإكثار
إنما شأنه التلطّف للمعنى بحسن الإيراد والإصدار «4»










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید