المنشورات

وجوه البلاغة

البلاغة تكون على أربعة أوجه: تكون باللفظ والخط والإشارة والدلالة. وكل منها له حظ من البلاغة والبيان، وموضع لا يجوز فيه غيره.
ومنه قولهم: لكل مقام مقال؛ ولكل كلام جواب؛ ورب إشارة أبلغ من لفظ.
فأما الخط والإشارة فمفهومان عند الخاصة وأكثر العامة؛ وأما الدلالة فكل شيء دلّك على شيء فقد أخبرك به، كما قال الحكيم: أشهد أن السموات والأرض آيات دالّات، وشواهد قائمات، كلّ يؤدّي عنك الحجة، ويشهد لك بالرّبوبية.
وقال الآخر: سل الأرض: من غرس أشجارك، وشقّ أنهارك، وجنى ثمارك؟
فإن لم تجبك إخبارا أجابتك اعتبارا «1» .
وقال الشاعر:
لقد جئت أبغي مجيرا ... فجئت الجبال وجئت البحورا
فقال لي البحر إذ جئته ... فكيف يجير ضرير ضريرا
وقال آخر:
نطقت عينه بما في الضمير
وقال نصيب بن رباح:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «2»
يريد: لو سكتوا لأثنت عليك حقائب الإبل التي يحتقبها الرّكب من هباتك وهذا الثناء إنما هو بالدلالة باللفظ.
وقال حبيب:
الدار: ناطقة وليست تنطق ... بدثورها أنّ الجديد سيخلق «1»
وهذا في قديم الشعر وحديثه وطارف «2» الكلام وتليده أكثر من أن يحيط به وصف أو يأتي من ورائه نعت.
وقال رجل للعتّابي: ما البلاغة؟ قال: كل من بلّغك حاجته، وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ. قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: اسمع منّي، وافهم عني؛ أو يمسح عثنونه «3» ، أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته من غير موجب، أو يتساعل من غير سعلة أو ينبهر «4» في كلامه.
وقال الشاعر:
مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع
وهذا كله من العيّ.
وقال أبرويز لكاتبه: اعلم أن دعائم المقالات أربع، إن التمس لها خامسة لم توجد، فإن نقصت منها واحدة لم تتمّ؛ وهي: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وإخبارك عن الشيء؛ فإذا طلبت فأسجح «5» ، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحكم، وإذا أخبرت فحقّق، واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول.
يريد الكلام الذي تقل حروفه وتكثر معانيه.
وقال ربيعة الرأي: إني لأسمع الحديث عطلا فأشنّفه «6» وأقرّطه فيحسن، وما زدت فيه شيئا ولا غيّرت له معنى.
وقالوا: خير الكلام ما لم يحتج بعده إلى كلام.
وقال يحيى: الكلام ذو فنون، وخيره ما وفق له القائل، وانتفع به السامع.
وللحسن بن جعفر:
عجبت لإدلال العييّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالحق أعلما
وفي الصمت ستر العييّ وإنّما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما «1»
وصف أعرابي بليغا فقال: كأن الألسن ريضت «2» فما تنعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلا ببيانه.
وصف أبو الوجيه بلاغة رجل فقال: كان والله يشول «3» بلسانه شولان البروق، ويتخلل به تخلل الحيّة.
وللعرب من موجز اللفظ ولطيف المعنى فصول عجيبة، وبدائع غريبة. وسنأتي على صدر منها إن شاء الله.








مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید