المنشورات

صفة الحلم وما يصلح له

من حلم الأحنف:
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري؛ رأيته قاعدا بفناء داره، محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أتي برجل مكتوف ورجل مقتول؛ فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك. فو الله ما حلّ حبوته «1» ولا قطع كلامه. ثم التفت إلى ابن أخيه وقال له: يا بن أخي، أثمت بربّك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمّك. ثم قال لابن له آخر: قم يا بنيّ فوار أخاك، وحلّ كتاف ابن عمك، وسق إلى أمّه مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. ثم أنشأ يقول:
إني امرو لا يطّبي حسبي «2» ... دنس يهجّنه ولا أفن «3»
من منقر في بيت مكرمة ... والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفّة لسن
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
وقال رجل للأحنف بن قيس: علّمني الحلم يا أبا بحر. قال: هو الذّل يا بن أخي، أفتصبر عليه؟
وقال الأحنف: لست حليما ولكنّي أتحالم.
وقيل له: من أحلم: أنت أم معاوية؟ قال: تالله ما رأيت أجهل منكم؛ إنّ معاوية يقدر فيحلم، وأنا أحلم ولا أقدر؛ فكيف أقاس عليه أو أدانيه؟
وقال هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف ما بلغ؟ قال:
إن شئت أخبرتك بخلّة «4» ، وإن شئت بخلّتين، وإن شئت بثلاث. قال: فما الخلّة؟
قال: كان أقوى الناس على نفسه. قال: فما الخلّتان؟ قال: كان موقّي الشر، ملقّى الخير. قال: فما الثلاث؟ قال: كان لا يجهل، ولا يبغي، ولا يبخل.
وقيل لقيس بن عاصم: ما الحلم؟ قال: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك.
وقالوا: ما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة.
وقال لقمان الحكيم: ثلاثة لا تعرفهم إلا في ثلاثة: لا تعرف الحليم إلا عند الغضب. ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا تعرف أخاك إلا إذا احتجت إليه. وقال الشاعر:
ليست الأحلام في حين الرضا ... إنما الأحلام في حين الغضب
وفي الحديث: «أقرب ما يكون المرء من غضب الله إذا غضب» .
وقال الحسن: المؤمن حليم لا يجهل وإن جهل عليه. وتلا قول الله عز وجل:
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً
«1» .
وقال معاوية: إني لأستحي من ربي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري.
وقال مؤرّق العجلي: ما تكلمت في الغضب بكلمة ندمت عليها في الرضا.
وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما غضبي في نعليّ، فإذا سمعت ما أكره أخذتهما ومضيت.
وقالوا: إذا غضب الرجل فليستلق على قفاه، وإذا عيي «2» فليراوح رجليه.
وقيل للأحنف: ما الحلم؟ فقال: قول إن لم يكن فعل، وصمت إن ضرّ قول.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من لانت كلمته وجبت محبته.
وقال: حلمك على السفيه يكثّر أنصارك عليه.
وقال الأحنف: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات.
وقال: رب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشدّ منه. وأنشد:
رضيت ببعض الذّلّ خوف جميعه ... كذلك بعض الشّرّ أهون من بعض
وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز ما يكره، فقال: لا عليك، إنما أردت أن يستفزّني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا. انصرف إذا شئت.
وقال الشاعر في هذا المعنى:
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان كاسفة ... لا ذلّ عجز ولكن ذلّ أحلام «1»
ولآخر:
إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذلّ ولو شاء لا نتصر «2»
ومن أحسن بيت في الحلم قول كعب بن زهير:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال الأحنف: آفة الحلم الذّل.
وقال: لا حلم لمن لا سفيه له.
وقال: ما قلّ سفهاء قوم إلا ذلوا. وأنشد:
لا بد للّسودد من رماح ... ومن رجال مصلتي السّلاح
يدافعون دونه بالرّاح ... ومن سفيه دائم النّباح
وقال النابغة الجعديّ:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا «1»
ولما أنشد هذين البيتين للنبي صلّى الله عليه وسلم، قال: لا يفضض الله فاك. فعاش مائة وسبعين سنة لم تنقض له ثنيّة.
وقالوا: لا يظهر الحلم إلا مع الانتصار، كما لا يظهر العفو إلا مع الاقتدار.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: كان سنان بن أبي حارثة أحلم من فرخ الطائر. قلت: وما حلم فرخ الطائر؟ قال: إنه يخرج من بيضة في رأس نيق «2» ، ولا يتحوّل حتى يتوفر ريشه ويقوى على الطيران.
وللأشنندانيّ:
وفي اللين ضعف والشراسة هيبة ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعر
وللفقر خير من غنى في دناءة ... وللموت خير من حياة على صغر «3»
وما كلّ حين ينفع الحلم أهله ... ولا كلّ حال يقبح الجهل بالصبر
وما بي على من لان لي من فظاظة ... ولكنني فظّ أبيّ على القسر «4»
وقال آخر في مدح الحلم:
إني أرى الحلم محمودا عواقبه ... والجهل أفنى من الأقوام أقواما
ولسابق:
ألم تر أن الحلم زين مسوّد ... لصاحبه والجهل للمرء شائن
فكن دافنا للجهل بالحلم تسترح ... من الجهل إنّ الحلم للجهل دافن
ولغيره:
ألا إنّ حلم المرء أكبر نسبة ... يسامي بها عند الفخار كريم
فيا ربّ هب لي منك حلما فإننّي ... أرى الحلم لم يندم عليه حليم
وقال بعض الحكماء: ما حلا عندي أفضل من غيظ أتجرّعه.
وقال بعضهم:
وفي الحلم روع للسفيه عن الأذى ... وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا «1»
فتندم إذ لا تنفعنك ندامة ... كما ندم المغبون لما تفرّقا
وقال عليّ عليه السلام: أول عوض الحليم عن حلمه أنّ الناس أنصاره على الجاهل.
سئل كسرى أنو شروان: ما قدر الحلم؟ فقال: وكيف تعرف قدر ما لم ير كماله أحد.
وقال معاوية لخالد بن المعمّر: كيف حبّك لعلي بن أبي طالب عليه السلام؟ قال:
أحبه لثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى وفائه إذا وعد.
وكان يقال: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الظلم والباطل، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا سمعت الكلمة تؤذيك فطأطيء لها حتى تتخطاك.
وقال الحسن: إنما يعرف الحلم عند الغضب. فإذا لم تغضب لم تكن حليما. وقال الشاعر:
وليس يتمّ الحلم للمرء راضيا ... إذا هو عند السخط لم يتحلّم
كما لا يتمّ الجود للمرء موسرا ... إذا هو عند العسر لم يتجشم «1»
وقال بعض الحكماء: إن أفضل واد ترى به الحلم، فإذا لم تكن حليما فتحلّم؛ فقلّما تشبّه رجل بقوم إلا كان منهم.
وقال بعضهم: الحلم عدّة على السفيه، لأنك لا تقابل سفيها بالإعراض «2» عنه والاستخفاف بفعله إلا أذللته.
ويقال: ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم ثم قدر فعفا.
وللأحنف، أو غيره:
ولربما ضحك الحليم من الأذى ... وفؤاده من حرّه يتأوّه
ولربما شكل الحليم لسانه ... حذر الجواب وإنّه لمفوّه «3»
وقيل: ما استسبّ اثنان إلا غلب ألأمهما.
وقال الأحنف: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال.
وقال بعضهم: إياك وعزة الغضب، فإنها تصيّرك إلى ذلّ الاعتذار.
وقيل: من حلم ساد، ومن تفهّم ازداد.
وقال الأحنف: ما نازعني أحد قطّ إلا أخذت أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت قدره، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضّلت عليه.
ولقد أحسن الذي أخذ هذا المعنى فنظمه فقال:
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن تقارع بالجهل
وإن كان مثلي ثم جاء بزلّة ... هويت لصفحي أن يضاف إلى العدل
وإن كنت أدنى منه قدرا ومنصبا ... عرفت له حقّ التقدّم والفضل
وفي مثله قال بعض الشعراء:
سألزم نفسي الصفح عن كلّ مذنب ... وإن كثرت منه إليّ الجرائم
وما الناس إلّا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وأتبع فيه الحقّ والحقّ قائم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... إجابته نفسي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زلّ أو هفا ... تفضّلت إن الفضل للحرّ لازم
ولأصرم بن قيس، ويقال إنها لعلي عليه السلام:
أصمّ عن الكلم المحفظات ... وأحلم والحلم بي أشبه «1»
وإنّي لأترك جلّ الكلام ... لئلا أجاب بما أكره
إذا ما اجتررت سفاه السفيه ... عليّ فإنّي أنا الأسفه
فلا تغترر برواء الرجال ... وما زحزحوا لك أو موّهوا «2»
فكم من فتى يعجب الناظرين ... له ألسن وله أوجه
ينام إذا حضر المكرمات ... وعند الدناءة يستنبه
وللحسن بن رجاء:
أحبّ مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أجيب وأن أجابا
وأصفح عن سباب الناس حلما ... وشرّ الناس من يهوى السّبابا
ومن هاب الرجال تهيّبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا
ومن قضت الرجال له حقوقا ... ولم يقض الحقوق فما أصابا
وقال محمد بن علي رضوان الله عنهما: من حلم وقى عرضه، ومن جادت كفّه حسن ثناؤه، ومن أصلح ماله استغنى، ومن احتمل المكروه كثرت محاسنه، ومن صبر حمد أمره، ومن كظم فشا «1» إحسانه، ومن عفا عن الذنوب كثرت أياديه، ومن اتقى الله كفاه ما أهمه.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید