المنشورات

ذمّ الزمان

قالت الحكماء: جبل الناس على ذمّ زمانهم وقلة الرضا عن أهل عصرهم.
فمنه قولهم: رضا الناس غاية لا تدرك.
وقولهم: لا سبيل إلى السلام من ألسنة العامة.
وقولهم: الناس يعيّرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر.
وفي الحديث: «لو أن المؤمن كالقدح لقال الناس ليس ولولا ... !» .
وقال الشاعر:
من لابس الناس لم يسلم من الناس ... وضرّسوه بأنياب وأضراس «1»
لعائشة في لبيد:
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: رحم الله لبيدا، كان يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت خلف كجلد الأجرب
فكيف لو أبصر زماننا هذا؟
قال عروة: ونحن نقول: رحم الله عائشة، فكيف لو أدركت زماننا هذا.
وكان بعضهم يقول: ذهب الناس وبقي النسناس «2» ، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟
دخل مسلم بن يزيد بن وهب على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: أيّ زمان أدركت أفضل، وأيّ الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا حامدا أو ذامّا، وأما الزمان فيرفع أقواما ويضع أقواما، وكلهم يذمّ زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرّق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم.
وقال الشاعر:
أيا دهر إن كنت عاديتنا ... فما قد صنعت بنا ما كفاكا
جعلت الشّرار علينا خيارا ... وولّيتنا بعد وجه قفاكا
وقال آخر:
إذا كان الزمان زمان تيم ... وعكل فالسلام على الزمان
زمان صار فيه الصدر عجزا ... وصار الزّجّ قدّام السّنان «3»
لعل زماننا سيعود يوما ... كما عاد الزمان على بطان «1»
أبو مياس وقوم يذكرون الزمان:
أبو جعفر الشيباني قال: أتانا يوما أبو ميّاس الشاعر ونحن في جماعة فقال: ما أنتم فيه وما تتذاكرون؟ قلنا: نذكر الزمان وفساده. قال: كلا، إنما الزمان وعاء، وما ألقي فيه من خير أو شرّ كان على حاله. ثم أنشأ يقول:
أرى حللا تصان على أناس ... وأخلاقا تداس فما تصان
يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان
أنشد فرج بن سلام:
هذا الزمان الذي كنّا نحذّره ... فيما يحدّث كعب وابن مسعود
إن دام ذا الدهر لم نحزن على أحد ... يموت منّا ولم نفرح بمولود
وقال حبيب الطائي:
لم أبك في زمن لم أرض خلّته ... إلا بكيت عليه حين ينصرم
وقال آخر في طاهر بن الحسين:
إذا كانت الدنيا تنال بطاهر ... تجنّبت منها كلّ ما فيه طاهر
وأعرضت عنها عفّة وتكرّما ... وأرجأتها حتى تدور الدوائر
وقال مؤمن بن سعيد في معقل الضبيّ وابن أخيه عثمان:
لقد ذلّت الدنيا وقد ذلّ أهلها ... وقد ملها أهل النّدى والتفضّل
إذا كانت الدنيا تميل بخيرها ... إلى مثل عثمان ومثل المحول
ففي است امّ دنيانا وفي است امّ خيرها ... وفي است امّ عثمان وفي است امّ معقل
وقال محمد بن مناذر:
يا طالب الأشعار والنحو ... هذا زمان فاسد الحشو
نهاره أوحش من ليله ... ونشوه من أخبث النشو
فدع طلاب النحو لا تبغه ... ولا تقل شعرا ولا ترو
فما يجوز اليوم إلّا امرؤ ... مستحكم العزف أو الشّدو
أو طرمذان قوله كاذب ... لا يفعل الخير ولا ينوي «1»
ومن قولنا في هذا المعنى:
رجاء دون أقربه السّحاب ... ووعد مثل ما لمع السّراب
ودهر سادت العبدان فيه ... وعاثت في جوانبه الذّئاب
وأيام خلت من كلّ خير ... ودنيا قد توزّعها الكلاب
كلاب لو سألتهم ترابا ... لقالوا: عندنا انقطع التّراب
تعاقب من أساء القول فيهم ... وإن يحسن فليس له ثواب
للجاحظ في ذم الزمان:
كتب عمرو بن بحر الجاحظ إلى بعض إخوانه في ذم الزمان:
بسم الله الرحمن الرحيم. حفظك الله حفظ من وفّقه للقناعة، واستعمله بالطاعة كتبت إليك وحالي حال من كثفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره، ومخرج أمره، وقلّ عنده من يثق بوفائه، أو يحمد مغبّة إخائه، لاستحالة زماننا، وفساد أيامنا، ودولة أنذالنا، وقدما كان من قدّم الحياء على نفسه، وحكّم الصدق في قوله، وآثر الحقّ في أموره، ونبذ المشتبهات عليه من شئونه. تمت له السلامة، وفاز بوفور حظّ العافية، وحمد مغبّة مكروه العاقبة، فنظرنا إذ حال عندنا حكمه، وتحولت دولته. فوجدنا الحياء متصلا بالحرمان، والصدق آفة على المال، والقصد في الطلب بترك استعمال القحة «2» وإخلاق العرض من طريق التوكل دليلا على سخافة الرأي؛ إذ صارت الحظوة الباسقة والنّعمة السابغة «1» في لؤم النية، وتناول الرّزق من جهة محاشاة الوقار، وملابسة معرّة العار.
ثم نظرنا في تعقّب المتعقّب لقولنا، والكاشر لحجتنا، فأقمنا له علما واضحا، وشاهدا قائما، ومنارا بيّنا؛ إذ وجدنا من فيه السّفوليّة الواضحة، والمثالب الفاضحة، والكذب المبرّح، والخلف المصرّح، والجهالة المفرطة، والركاكة المستخفّة، وضعف اليقين والاستيثاب «2» ، وسرعة الغضب والخفة قد استكمل سروره، واعتدلت أموره، وفاز بالسهم الأغلب، والحظّ الأوفر، والقدر الرفيع، والجواب الطائع، والأمر النافذ، إن زلّ قيل حكم، وإن أخطأ قيل أصاب، وإن هذى في كلامه وهو يقظان قيل رؤيا صادقة في سنة «3» مباركة.
فهذه حجتنا- أبقاك الله- على من زعم أن الجهل يخفض، وأن الحمق يضع، وأن النّوك يردي وأن الكذب يضر، وأن الخلف يزري.
ثم نظرنا في الوفاء والأمانة، والنّبل والبراعة وحسن المذهب، وكمال المروءة، وسعة الصدر، وقلة الغضب، وكرم الطبيعة، والفائق في سعة علمه، والحاكم على نفسه، والغالب لهواه؛ فوجدنا فلان بن فلان، ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقّه، ولا قام له بوظائف فرضه؛ ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به. فهذا دليل على أن الطّلاح أجدى من الصّلاح، وأن الفضل قد مضى زمانه، وعفت آثاره «4» ، وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضده؛ ووجدنا العقل يشقى به قرينه، كما أنّ الجهل والحمق يحظى به خدينه ووجدنا الشعر ناطقا على الزمان، ومعربا عن الأيام، حيث يقول:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولاقهم بالجهل فعل أخي الجهل
وخلّط إذا لاقيت يوما مخلّطا ... يخلّط في قول صحيح وفي هزل «1»
فإنّي رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل
فبقيت أبقاك الله مثل من أصبح على أوفاز «2» ، ومن النّقلة على جهاز، لا تسوغ له نهمة ولا يطعم عينيه غمضة، في أهاويل يباكره مكروهها وتراوحه عقابيلها «3» فلو أن الدعاء أجيب والتضرّع سمع، لكانت الهدّة العظمى، والرجفة الكبرى؛ فليت الذي يا أخي ما أستبطئه من النفخة، ومن فجأة الصيحة، قضي فحان، وأذن به فكان؛ فو الله ما عذّبت أمة برجفة ولا ريح ولا سخطة، عذاب عيني برؤية المغايظة المضنية، والأخبار المهلكة، كأن الزمان توكل بعذابي، أو انتصب لإيلامي؛ فما عيش من لا يسرّ بأخ شقيق، ولا خدن شفيق، ولا يصطبح في أول نهاره إلا برؤية من تكره رؤيته، ونغمة من تغمّه طلعته فبدّل الله لي- أي أخي- بالمسكن مسكنا، وبالربع ربعا! فقد طالت الغمة، وواطنت الكربة، وادلهمّت الظّلمة، وخمد السراج، وتباطأ الانفراج، السلام.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید