المنشورات

باب في الغلوّ في الدين

توفّي رجل في عهد عمر بن ذرّ ممن أسرف على نفسه في الذنوب، وجاوز في الطّغيان، فتجافى الناس عن جنازته، فحضرها عمر بن ذرّ وصلّى عليه، فلما أدلي في قبره قال: يرحمك الله أبا فلان، صحبت عمرك بالتوحيد، وعفرت «3» وجهك لله بالسجود، فإن قالوا مذنب وذو خطايا، فمن منا غير مذنب وذي خطايا.
ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً
«1» وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
«2» ثم ذكر الرجل يرى أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام؛ فأنّي يستجاب له؟» .
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله بعثني بالحنيفية السمحة ولم يبعثني بالرّهبانية المبتدعة، سنّتي الصلاة والنوم، والإفطار والصوم؛ فمن رغب عن سنّتي فليس مني» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ هذا الدين متين فأوغل «3» فيه برفق؛ فإنّ المنبتّ «4» لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خير هذه الأمة هنا النّمط الأوسط، يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي.
وقال مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير لابنه، وكان قد تعبّد: يا بنيّ، إنّ الحسنة بين السيئتين- يعني الدين: بين الإفراط والتقصير- وخير الأمور أوسطها، وشر السّير الحقحقة «5» .
وقال سلمان الفارسي: القصد والدّوام، وأنت الجواد السابق.
وقالوا: عامل البرّ كآكل الطعام: إن أكل منه قوتا عصمه، وإن أسرف منه أبشمه «6» .
وفي بعض الحديث: أنّ عيسى بن مريم عليه السلام لقي رجلا، فقال له: ما تصنع؟ قال: أتعبّد. قال: فمن يعود عليك؟ قال: أخي. قال: هو أعبد منك.
ونظير هذا أنّ رفقة من الأشعريّين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدك أفضل من فلان؛ كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام من الليل حتى نرتحل. قال: فمن كان يمهن له ويكفله؟ قالوا: كلنا. قال: كلكم أفضل منه.
وقيل للزهري: ما الزهد في الدنيا؟ قال: إنه ما هو بتشعيث الّلمّة، ولا قشف الهيئة، ولكنه ظلف «1» النفس عن الشهوة.
عليّ بن عاصم عن أبي إسحاق عن الشيباني قال: رأيت محمد بن الحنفية واقفا بعرفات على برذون وعليه مطرف خزّ أصفر.
السّدّيّ عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان أنّ ابن عباس كان يرتدي رداء بألف.
إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة.
وقال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني يكاد يمسّ الأرض، فسألته عن ذلك، فقال: إن الشّهرة كانت فيما مضى في تذييل القميص وإنها اليوم في تشميره.
أبو حاتم عن الأصمعي: أن ابن عون اشترى برنسا. فمرّ على معاذة العدويّة، فقالت: مثلك يلبس هذا؟ فذكرت ذلك لابن سيرين، فقال: أفلا أخبرتها أن تميما الدّاريّ اشترى حلّة بألف يصلّي فيها! قدم حمّاد بن سلمة البصرة، فجاءه فرقد السّبخيّ وعليه ثياب صوف، فقال له حماد: دع عنك نصرانيّتك هذه! فقال له: لقد رأيتنا ننظر إبراهيم فيخرج إلينا وعليه معصفرة «2» ، ونحن نرى أن الميتة قد حلّت له.
أبو الحسن المدائني قال: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم والي خراسان في مدرعة صوف، فقال له: ما يدعوك إلى لباس هذه؟ فسكت! فقال له قتيبة:
أكلّمك فلا تجيبني؟ قال: أكره أن أقول زهدا فأزكّي نفس، أو أقول فقرا فأشكو ربي؛ فما جوابك إلا السكوت.
قال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطّلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لقد هلكتم.
وكان القاسم بن محمد يلبس الخزّ وسالم بن عبد الله يلبس الصوف ويقعدان في مسجد المدينة؛ فلا ينكر هذا على هذا ولا ذا على هذا.
ودخل رجل على محمد بن المنكدر فوجده قاعدا على حشايا مضاعفة وجارية تغلّفه بالغالية «1» ؛ فقال: رحمك الله! جئت أسألك عن شيء وجدتك فيه- يريد التّزيّن- قال: على هذا أدركت الناس.
وصلّى الأعمش في مسجد قوم فأطال بهم الإمام، فلما فرغ قال له: يا هذا، لا تطل صلاتك؛ فإنه يكون خلفك ذو الحاجة والكبير والضعيف. قال الإمام: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. فقال له الأعمش: أنا رسول الخاشعين إليك، إنهم لا يحتاجون إلى هذا منك.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید