المنشورات

الخوارج وعلي بن أبي طالب:

لما خرجت الخوارج على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا من أصحابه، وكان من أمر الحكمين ما كان واختداع عمرو لأبي موسى الأشعري، قالوا: لا حكم إلا لله. فلما سمع عليّ رضي الله عنه نداءهم. قال: كلمة حق يراد بها باطل، وإنما مذهبهم ألّا يكون أمير، ولا بد من أمير برّا كان أو فاجرا. وقالوا لعليّ: شككت في أمرك، وحكّمت عدوّك في نفسك. وخرجوا إلى حروراء، وخرج إليهم عليّ رضي الله عنه، فخطبهم متوكّئا على قوسه، وقال:
هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة «2» ، أنشدكم الله، هل علمتم أن أحدا كان أكره للحكومة مني؟ قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني عليها حتى قبلتها؟ قالوا اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني؟ قالوا: إنا أتينا ذنبا عظيما فتبنا إلى الله منه، فتب إلى الله منه. واستغفره نعد إليك. فقال علي: إني أستغفر الله من كل ذنب. فرجعوا معه وهم في ستة آلاف. فلما استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ عليّا رجع عن التحكيم وتاب منه ورآه ضلالا. فأتى الأشعث بن قيس عليّا رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدّثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا والإقامة عليها كفرا وتبت. فخطب عليّ الناس فقال: من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالا فهو أضلّ منها. فخرجت الخوارج من المسجد فحكمت، فقيل لعليّ: إنهم خارجون عليك. فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون.
فوجّه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحّبوا به وأكرموه، فرأى منهم جباها قرحت «1» لطول السجود، وأيديا كثفنات «2» الإبل، وعليهم قمص مرحضة «3» ، وهم مشمّرون. قالوا: ما جاء بك يا بن عباس؟ قال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربّه وسنة نبيّه، ومن عند المهاجرين والأنصار: فقالوا: إنا أتينا عظيما حين حكّمنا الرجال في دين الله؛ فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم، أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا: نعم، ولكن عليّا محا نفسه من خلافة المسلمين. قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه وقد محا رسول الله صلّى الله عليه وسلم اسمه من النبوة، وقال سهيل بن عمرو: لو علمت أنك رسول الله ما حاربتك فقال للكاتب: اكتب «محمد بن عبد الله» . وقد أخذ عليّ على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعليّ أولى من معاوية وغيره. قالوا: إنّ معاوية يدّعي مثل دعوى عليّ، قال: فأيهما رأيتموه أولى فولّوه. قالوا: صدقت. قال ابن عباس: ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف.
فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعيّ الرّياحي. فلم يزالوا على ذلك حتى اجتمعوا على البيعة لعبد الله بن وهب الرّاسبي، فخرج بهم إلى النّهروان، فأوقع بهم عليّ، فقتل منهم ألفين وثمانمائة، وكانّ عددهم ستة آلاف. وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسرّ أمره؛ فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضي الله عنه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله ابن خبّاب. قالوا: كلنا قتله وشرك في دمه.
وذلك أنهم لما خرجوا إلى النهروان لقوا مسلما ونصرانيا، فقتلوا المسلم وأوصوا بالنّصراني خيرا، وقالوا: احفظوا ذمّة نبيكم. ولقوا عبد الله ابن خبّاب، وفي عنقه المصحف ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا: إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك.
فقال لهم: أحيوا ما أحيا القرآن، وأميتوا ما أمام القرآن. قالوا: حدّثنا عن أبيك.
قال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: أقول إن عليا أعلم بالله منكم وأشدّ توقّيا على دينه وأبعد بصيرة. قالوا: إنك لست تتبع الهدى، بل الرجال على أسمائها. ثم قرّبوه إلى شاطيء البحر فذبحوه، فامذقرّ دمه- أي جرى مستقيما على دفة- وساموا «1» رجلا نصرانيا بنخلة- فقال: هي لكم هبة. قالوا: ما كنا نأخذها إلا بثمن. فقال: ما أعجب هذا! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون منا جنى نخلة إلا بثمن.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید