المنشورات

الخوارج وابن الزبير:

فبلغهم خروج مسلم بن عقبة إلى المدينة وقتله أهل حرّة، وأنه مقبل إلى مكة، فقالوا: يجب علينا أن نمنع حرم الله منهم ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا تابعناه. فلما صاروا إلى ابن الزبير عرّفوه أنفسهم وما قدموا له، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشام، فدافعوه إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يتابعوا ابن الزبير؛ ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فننظر ما عنده، فإن قدّم أبا بكر وعمر وبرىء من عثمان وعليّ وكفّر أباه وطلحة بايعناه؛ وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير وهو متبذّل «1» وأصحابه متفرّقون عنه، فقالوا له: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت على صواب بايعناك، وإن كنت على خلاف دعوناك إلى الحق؛ ما تقول في الشيخين؟ قال: خيرا، قالوا: فما تقول في عثمان الذي حمى الحمى «2» ، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئا وكتب بخلافه، وأوطأ آل بني معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين؛ وفي الذي بعده الذي حكّم الرجال في دين الله وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم؛ وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا عليّا، وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بيعته وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن «3» في بيوتهن، وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة؛ فإن أنت قبلت كلّ ما نقول لك الزّلفى عند الله، والنصر على أيدينا إن شاء الله، ونسأل الله لك التوفيق، وإن أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا.
فقال ابن الزبير: إن الله أمر وله العزّة والقدرة في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العاتين بأرقّ من هذا القول؛ قال لموسى وأخيه صلى الله عليهما: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى
«4» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تؤذوا الأحياء بسبّ الموتى. فنهى عن سبّ أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدوّ الله ورسوله، والمقيم على الشرك، والجادّ في محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل الهجرة والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنبا؛ وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سمّيتم فيه طلحة وأبي أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين؟ فإن كانا منهم دخلا في غمار الناس «1» ، وان لم يكونا منهم لم تحفظوني بسبّ أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جلّ وعزّ قال للمؤمن في أبويه: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً
«2» وقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً
«3» . وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتّصريح، ولعمري إنّ ذلك أحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كلّ صاحبه من عدوّه. فروحوا إليّ من عشيّتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید