المنشورات

بين نجدة وابن الأزرق:

وكتب نجدة. وكان من الصّفرية القعدية، إلى نافع بن الأزرق لمّا بلغه عنه استعراضه للناس وقتله الأطفال، واستحلاله الأمانة:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البرّ، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم؛ كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لولا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين، فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصّه «2» وركبت مرّه، تجرّد لك الشيطان فلم يكن أحد أثقل وطأة عليه منك ومن أصحابك، فاستمالك واستغواك، فغويت وأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
«3» ثم سمّاهم أحسن الأسماء فقال: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ
«1» استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال جل ثناؤه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
«2» وقال في القعد خيرا، وفضّل الله من جاهد عليهم، ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملا منزلة من هو دونه.
إلا إذا اشتركا في أصل. أو ما سمعت قوله تبارك وتعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
«3» فجعلهم الله من المؤمنين، وفضّل عليهم المجاهدين بأعمالهم. ورأيت من رأيك أن لا تؤدّي الأمانة إلى من يخالفك، والله يأمرك أن تؤدّي الأمانات إلى أهلها. فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً
«4» فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل. وقوله الفصل. والسلام.
فكتب إليه نافع بن الأزرق:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب؛ وأنا أسأل الله أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وعبت عليّ ما دنت به من إكفار القعد، وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة. وسأفسّر لك لم ذلك إن شاء الله: أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلا، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا؛ وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرءوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح. وقد عرفت ما يقول الله فيمن كان مثلهم، إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها
«5» . وقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ
«6» . وقال: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ. وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
«1» . فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحا عليه السلام كان أعرف بالله يا نجدة مني ومنك، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً
«2» فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يولدوا؛ فكيف جاز لك في قوم نوح ولا يجوز في قومنا والله يقول: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ
«3» وهؤلاء كمشركي العرب، لا تقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.
وأما استحلال الأمانات ممن خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق، وأموالهم فيء للمسلمين، فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلّا بالتوبة، ولا يسعك خذلاننا والقعود دوننا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا. والسلام على من أقرّ بالحق وعمل به.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید