المنشورات

ردّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على شوذب الخارجي

الهيثم بن عديّ قال: أخبرني عوانة بن الحكم عن محمد بن الزّبير قال: بعثني عمر ابن عبد العزيز مع عون بن عبد الله بن مسعود إلى شوذب الخارجي وأصحابه، إذ خرجوا بالجزيرة، وكتب معنا كتابا إليهم. فقدمنا عليهم ودفعنا كتابه إليهم. فبعثوا معنا رجلا من بني شيبان ورجلا فيه حبشية يقال له شوذب، فقدما معنا على عمر وهو بخناصرة «1» ، فصعدنا إليه، وكان في غرفة ومعه ابنه عبد الملك وحاجبه مزاحم، فأخبرناه بمكان الخارجيّين. فقال عمر: فتّشوهما لا يكن معهما حديد، وأدخلوهما. فلما دخلا قالا: السلام عليكم. ثم جلسا. فقال لهما عمر: أخبراني: ما الذي أخرجكم عن حكمي هذا وما نقمتم؟ فتكلم الأسود منهما، فقال: إنا والله ما نقمنا عليك في سيرتك وتحرّيك العدل والإحسان إلى من ولّيت ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن منعتناه فلست منا ولسنا منك. قال عمر: ما هو؟ قال: رأيناك خالفت أهل بيتك وسميتها مظالم، وسلكت غير طريقهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وابرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرّق.
فتكلم عمر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني قد علمت أو ظننت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا ومتاعها، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها، وإني سائلكما عن أمر، فبالله اصدقاني فيه مبلغ علمكما. قالا: نعم. قال:
أخبراني عن أبي بكر وعمر، أليسا من اسلافكما ومن تتوليان وتشهدان لهما بالنجاة؟
قالا: اللهم نعم. قال: فهل علمتما أن أبا بكر حين قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم فارتدت العرب قاتلهم، فسفك الدماء، وأخذ الأموال، وسبى الذراري؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن عمر قام بعد أبي بكر فردّ تلك السبايا إلى عشائرها؟ قالا: نعم. قال: فهل بريء عمر من أبي بكر أو تبرءون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أهل النّهروان، أليسوا من صالحي أسلافكم وممن تشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: نعم.
قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا كفّوا أيديهم، فلم يسفكوا دما، ولم يخيفوا آمنا، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فديك استعرضوا الناس يقتلونهم، ولقوا عبد الله ابن خبّاب بن الأرتّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم قتلوا النساء والأطفال، حتى جعلوا يلقونهم في قدور الأقط «1» وهي تفور؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أهل الكوفة من أهل البصرة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرءون من إحدى الفئتين؟ قالا:
لا. قال: أفرأيتم الدين، أليس هو واحدا أم الدين اثنان؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم منه شيء يعجزني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن تولّيتم أبا بكر وعمر، وتولى كلّ واحد منهما صاحبه، وتوليتم أهل الكوفة والبصرة، وتولى بعضهم بعضا؛ وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم أو رأيت لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لا بد منها؛ فإن كان ذلك فمتى عهدك بلعن فرعون وقد قال: أنا ربكم الأعلى؟ قال: ما أذكر أني لعنته. قال: ويحك! أيسعك ألّا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق، ولا يسعني إلا أن ألعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحكم! إنكم قوم جهال، أردتم أمرا فأخطأتموه، فأنتم تردّون على الناس ما قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. بعثه الله إليهم وهم عبدة أوثان، فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، فمن قال ذلك حقن بذلك دمه، وأحرز ماله «1» ، ووجبت حرمته، وأمن به عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أسوة المسلمين، وكان حسابه على الله. أفلستم تلقون من خلع الأوثان، ورفض الأديان، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، تستحلون دمه وماله، ويلعن عندكم، ومن ترك ذلك وأباه، من اليهود والنصارى وأهل الأديان فتحرّموه دمه وماله ويأمن عندكم؟ فقال الأسود: ما سمعت كاليوم أحدا أبين حجة، ولا أقرب مأخذا، أما أنا فأشهد أنك على الحق، وأني بريء ممن بريء منك! فقال عمر لصاحبه: يا أخا بني شيبان، ما تقول أنت؟
قال: ما أحسن ما قلت ووصفت! غير أني لا أفتات «2» على الناس بأمر حتى ألقاهم بما ذكرت وأنظر ما حجّتهم. قال: أنت وذاك! فأقام الحبشي مع عمر وأمر له بالعطاء، فلم يلبث أن مات، ولحق الشيبانيّ بأصحابه فقتل معهم بعد وفاة عمر.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید