المنشورات

الأدب في العيادة

مرض أبو عمرو بن العلاء، فدخل عليه رجل من أصحابه، فقال له: أريد أن أساهرك الليلة. قال له: أنت معافى وأنا مبتلي، فالعافية لا تدعك أن تسهر، والبلاء لا يدعني أن أنام. وأسأل الله أن يهب لأهل العافية الشكر، ولأهل البلاء الصبر.
ودخل كثير عزّة على عبد العزيز بن مروان وهو مريض، فقال: لو أن سرورك لا يتمّ إلا بأن تسلم وأسقم لدعوت ربي أن يصرف ما بك إليّ، ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية، ولي في كنفك النعمة. فضحك وأمر له بجائزة. فخرج وهو يقول:
ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا ... ليت التّشكّي كان بالعوّاد
لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي «1»
وكتب رجل من أهل الأدب إلى عليل:
نبّئت أنّك معتلّ فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كلّ محذور
يا ليت علّته بي ثمّ كان له ... أجر العليل وأنّي غير مأجور
وكتب آخر إلى عليل:
وقيناك لو يعطى الهوى فيك والمنى ... لكان بنا الشكوى وكان لك الأجر
بين يحيى بن خالد وشاعر اعتل:
وكان شاعر يختلف إلى يحيى بن خالد بن برمك ويمتدحه، فغاب عنه أياما لعلة عرضت له، فلم يفتقده يحيى ولم يسأل عنه؛ فلما أفاق الرجل من علّته كتب إليه:
أيّهذا الأمير أكرمك الل ... هـ وأبقاك لي بقاء طويلا
أجميلا تراه أصلحك الل ... هـ لكيما أراه أيضا جميلا
أنّني قد أقمت عنك طويلا ... لا ترى منفذا إليّ رسولا
الذنب فما علمت سوى الشّك ... ر لما قد أوليتنيه جزيلا
أم ملالا فما علمتك للحا ... فظ مثلي على الزّمان ملولا
قد أتى الله بالصّلاح فما أن ... كرت ممّا عهدت إلّا قليلا
وأكلت الدّرّاج وهو غذاء ... أفلت علّتي عليه أفولا «1»
وكأنّي قدمت قبلك آتي ... ك غدا إن أجد إليك سبيلا
فكتب إليه الوزير يعتذر:
دفع الله عنك نائبة الده ... ر وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وماذا ... ك من العذر جائزا مقبولا
ولعلّي لو قد علمت لعاود ... تك شهرا وكان ذاك قليلا
فاجعلنّ لي إلى التّعلّق بالعذ ... ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا
فقديما ما جاء ذو الفضل بالفض ... ل وما سامح الخليل خليلا
وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر:
أعزز عليّ بأن أراك عليلا ... أو أن يكون بك السّقام نزيلا
فوددت أنّي مالك لسلامتي ... فأعيرها لك بكرة وأصيلا
فتكون تبقى سالما بسلامتي ... وأكون ممّا قد عراك بديلا
هذا أخ لك يشتكي ما تشتكي ... وكذا الخليل إذا أحبّ خليلا
ومرض يحيى بن خالد، فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا دخل عليه يعوده وقف عند رأسه ودعا له، ثم يخرج فيسأل الحاجب عن منامه وشرابه وطعامه؛ فلما أفاق قال يحيى بن خالد: ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيل بن صبيح.
وقال الشاعر:
عيادة المرء يوم بين يومين ... وجلسة لك مثل الّلحظ بالعين
لا تبرمنّ مريضا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين «1»
وقال بكر بن عبد الله لقوم عاوده في مرضه فأطالوا الجلوس عنده: المريض يعاد والصحيح يزار.
وقال سفيان الثوري: حمق القرّاء أشدّ على المرضى من أمراضهم: يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس.
ودخل رجل على عمر بن العزيز يعوده في مرضه، فسأله عن علّته، فلما أخبره قال: من هذه العلة مات فلان، ومات فلان. فقال له عمر: إذا عدت المرضى فلا تنع إليهم الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا.
وقال ابن عباس: إذا دخلتم على الرجل وهو في الموت فبشّروه ليلقى ربّه وهو حسن الظن، ولقّنوه الشهادة، ولا تضجروه.
ومرض الأعمش فأبرمه الناس بالسؤال عن حاله، فكتب قصته في كتاب وجعله عند رأسه، فإذا سأله أحد قال: عندك القصة في الكتاب فاقرأها.
ولبعضهم:
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى إليّ يعودني ... فبرئت من نظري إليه
ومرض محمد بن عبد الله بن طاهر، فكتب إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله:
إنّي وجدت على جفا ... ئك من فعالك شاهدا
إنّي اعتللت فما فقد ... ت سوى رسولك عائدا
ولو اعتللت فلم أجد ... سببا إليك مساعدا
لاستشعرت عيني الكرى ... حتّى أعودك راقدا
فأجابه:
كحلت مقلتي بشوك القتاد ... لم أذق حرقة لطعم الرّقاد «1»
يا أخي الباذل المودّة والنّا ... زل من مقلتي مكان السّواد
منعتني عليك رقّة قلبي ... من دخولي إليك في العوّاد
لو بأذني سمعت منك أنينا ... لتفرّى مع الأنين فؤادي «2»
ولمحمد بن يزيد:
يا عليلا أفديك من ألم الع ... لة هل لي إلى الّلقاء سبيل
إن يحل دونك الحجاب فما يح ... جب عنّي بك الضّنى والعويل
وأنشد محمد بن يزيد، قال: أنشدني أبو دهمان لنفسه وقد دخل على بعض الأمراء يعوده:
بأنفسنا لا بالطّوارف والتّلد ... نقيك الذي تخفي من السّقم أو تبدي
بنا معشر العوّاد ما بك من أذى ... فإن أشفقوا ممّا أقول فبي وحدي
وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طوق في شكاة له:
كم لوعة للنّدى وكم قلق ... للحمد والمكرمات من قلقك
ألبسك الله منه عافية ... في نومك المعتري وفي أرقك
تخرج من جسمك السّقام كما ... أخرج ذمّ الفعال من خلقك
ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شكاة له يعوده، فقال:
الله يدفع عن نفس الإمام لنا ... وكلّنا للمنايا دونه غرض
فليت أنّ الذي يعروه من مرض ... بالعائدين جميعا لا به المرض
فبالإمام لنا من غيرنا عوض ... وليس في غيره منه لنا عوض
فما أبالي إذا ما نفسه سلمت ... لو باد كلّ عباد الله وانقرضوا
وقال آخر في بعض الأمراء:
واعتلّ فاعتلّت الدنيا لعلّته ... واعتلّ فاعتلّ فيه البأس والكرم
لمّا استقلّ أنار المجد وانقشعت ... عنه الضبابة والأحزان والسّقم «1»
وبلغ قيسا مجنون بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة: فقال:
يقولون ليلى بالعراق مريضة ... فما لك تجفوها وأنت صديق
شفى الله مرضى بالعراق فإنّني ... على كلّ شاك بالعراق شفيق
ولمحمد بن عبد الله بن طاهر:
ألبسك الله منه عافية ... تغنيك عن دعوتي وعن جلدك
سقمك ذا لا لعلّة عرضت ... بل سقم عينيك ردّ في جسدك
فيا مريض الجفون أحي فتى ... قتلته بالجفون لا بيدك
وقال غيره:
يا أملي، كيف أنت من ألمك ... وكيف ما تشتكيه من سقمك
هذان يومان لي أعدّهما ... مذ لم تلح لي بروق مبتسمك
حسدت حمّاك حين قيل لها ... بأنها قبّلتك فوق فمك
ولسحيم عبد بني الحسحاس:
تجمّعن شتّى من ثلاث وأربع ... وواحدة حتى كملن ثمانيا
واقبلن من أقصى الخيام يعدنني ... ألا إنما بعض العوائد دائيا
وللعباس بن الأحنف:
قالت مرضت فعدتها فتبرّمت ... وهي الصحيحة والمريض العائد
والله لو قست القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الضعيف الوالد
وقال الواثق:
لا بك السّقم ولكن كان بي ... وبنفسي وبأمّي وأبي
قيل لي إنّك صدّعت فما ... خالطت سمعي حتى دير بي «1»
وأنشد محمد بن يزيد المبرّد لعلية بنت المهدي:
تمارضت كي أشجى وما بك علّة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك
وقولك للعوّاد كيف ترونه ... فقالوا قتيلا قلت أهون هالك
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك
ومن قولنا في هذا المعنى:
روح الندى بين أثواب العلا وصب ... يعتنّ في جسد للمجد موصوب «2»
ما أنت وحدك مكسوّ شحوب ضنى ... بل كلّنا بك من مضنى ومشحوب
يا من عليه حجاب من جلالته ... وإن بدا لك يوما غير محجوب
ألقى عليك يدا للضّرّ كاشفة ... كشّاف ضرّ نبيّ الله أيّوب
ومثله من قولنا:
لا غرو إن نال منك السّقم والضرر ... قد تكسف الشمس لا بل يخسف القمر
يا غرّة القمر الذاوي غضارتها ... فدّى لنورك منّي السمع والبصر
إن يمس جسمك مدهوكا بصالية ... فهكذا يوعك الضّرغامة الهصر «1»
أن الحسام فإن تفلل مضاربه ... فقبله ما يفلّ الصارم الذّكر «2»
روح من المجد في جثمان مكرمة ... كأنما الصبح من خدّيه ينفجر
لو غال مجلوده شيء سوى قدر ... أكبرت ذاك ولكن غاله القدر
ومن قولنا في هذا المعنى:
لا غرو إن نال منك السّقم ما سألا ... قد يكسف البدر أحيانا إذا كملا
ما تشتكي علة في الدهر واحدة ... إلا اشتكى الجود من وجد بها عللا












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید