المنشورات

الأدب في المؤاكلة

قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله.
بلال والجارود:
محمد بن سلام الجمحي قال: قال بلاد بن أبي بردة. وهو أمير على البصرة، للجارود بن أبي سبرة الهذلي: أتحضر طعام هذا الشيخ؟ يعني عبد الأعلى بن عبد الله ابن عامر؛ قال: نعم. قال: فصفه لي. قال: نأتيه فنجده منبطحا، يعني نائما، فنجلس حتى يستيقظ، فيأذن فنساقطه الحديث، فإن حدّثناه أحسن الاستماع؛ وإن حدّثنا أحسن الحديث، ثم يدعو بمائدته، وقد تقدّم إلى جواريه وأمهات أولاده ألّا تلفظ واحدة منهن إذا وضعت مائدة، ثم يقبل خبّازه فيمثل بين يديه قائما، فيقول له: ما عندك؟ فيقول: عندي كذا وكذا. فيعدّد ما عنده. يريد بذلك أن يحسن كلّ رجل نفسه وشهوته على ما يريد من الطعام. وتقبل الألوان من ها هنا ومن ها هنا فتوضع على المائدة، ثم يؤتى بثريدة شبهاء «1» من الفلفل رقطاء «2» من الحمّص، ذات حفافين من العراق «3» ، فيأكل معذرا، حتى إذا ظن أن القوم قد كادوا يمتلئون، جثا على ركبتيه؛ ثم استأنف الأكل معهم.
قال ابن أبي بردة: لله درّ عبد الأعلى، ما أربط جأشه على وقع الأضراس.
وحضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك؛ فبيناه يأكل معه إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. فقال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا، ثم خرج وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
بين المنصور وأعرابي:
محمد بن زيد قال: أكل قائد لأبي جعفر المنصور معه يوما، وكان على المائدة محمد المهديّ وصالح ابناه، فبينا الرجل يأكل من ثريدة بين أيديهم، إذ سقط بعض الطعام من فيه في الغضّارة «4» ، فكأن المهدي وأخاه عافا الأكل معه، فأخذ أبو جعفر الطعام الذي سقط من فم الرجل فأكله، فالتفت إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، أما الدنيا فهي أقلّ وأيسر من أن أتركها لك، والله لأتركن في مرضاتك الدنيا والآخرة.
المنصور وهاشمي والربيع حاجبه:
وحدّث إبراهيم بن السندي قال: كان فتى من بني هاشم يدخل على المنصور كثيرا، يسلم من بعيد وينصرف، فأتاه يوما فأدناه، ثم دعاه إلى الغذاء. فقال: قد تغدّيت! فأمهله الرّبيع حاجب المنصور حتى ظن أنه لم يفهم الخطيئة، فلما انصرف وصار وراء الستر دفعه في قفاه، فلما رأى من الحاجب دفعه في قفاه، شكا الفتى حالته وما ناله إلى عمومته، فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر، وقالوا: إن الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا. فقال لهم أبو جعفر: إن الربيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حجة، فإن شئتم أمسكنا عن ذلك وأغضينا، وإن شئتم سألته وأسمعتكم. قالوا:
بل يسأله أمير المؤمنين ونسمع. فدعاه فسأله، فقال: إن هذا الفتى كان يأتي فيسلّم وينصرف من بعيد؛ فلما كان أمس أدناه أمير المؤمنين حتى سلّم من قرب؛ وتبذّل بين يديه ودعاه إلى غدائه؛ فبلغ من جهله بحق المرتبة التي أحلّه فيها أن قال: قد تغديت. وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدّ خلّة الجوع، ومثل هذا لا يقوّمه القول دون الفعل. فسكت القوم وانصرفوا.
وقال بكر بن عبد الله: أحق الناس بلطمة من أتى طعاما لم يدع إليه، وأحق الناس بلطمتين من يقول له صاحب البيت: اجلس ها هنا. فيقول: لا، ها هنا، وأحق الناس بثلاث لطمات من دعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل: ادع ربة البيت تأكل معنا.
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: لا ينبغي للفتى أن يكون مكحلا؛ ولا مقبّبا، ولا مكوكبا، ولا شكامدا، ولا حرامدا، ولا تقامدا. ثم فسره فقال: أما المكحل، فالذي يتعرق العظم حتى يدعه كأنه مكحلة عاج، والمقّبب، فالذي يركّب اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قبة؛ والمكوكب، الذي يبصق في الطست وينخم فيها حتى يصير بصاقه كأنه الكواكب في الطست: والحرامد، الذي يأتي في وقت الغداء والعشاء فيقول: ما تأكلون؟ فيقولون من بغضه: سمّا! فيدخل يده ويقول: في حرامّ العيش بعدكم؛ والشّكامد. الذي يتبع اللقمة بأخرى قبل أن يسيغها فيخنق، كأنه ديك قد ابتلع فأرة، والنقامد، الذي يضع الطعام بين يديه ويأكل من بين يدي غيره.
ومن الأدب: أن يبدأ صاحب الطعام بغسل يده قبل الطعام، ثم يقول لجلسائه: من شاء منكم فليغسل. فإذا غسل بعد الطعام: فليقدّمهم ويتأخر.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید