المنشورات

الكناية والتعريض

ومن أحسن الكناية اللطيفة عن المعنى الذي يقبح ظاهره: قيل لعمر بن عبد العزيز، وقد نبت له حبن «1» تحت أنتييه «2» : أين نبت بك هذا الحبن؟ قال: بين الرانفة «3» والصّفن «4» .
وقال آخر، ونبت به حبن في أبطه، أين نبت بك هذا الحبن؟ قال: تحت منكبي.
وقد كنى الله تعالى في كتابه عن الجماع بالملامسة، وعن الحدث بالغائط فقال:
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ
«5» - والغائط: الفحص، وجمعه غيطان- وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ
«6» وإنما كنى به عن الحدث.
وقال تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
«7» فكنى عن البرص.
ودخل الربيع بن زياد على النعمان بن المنذر وبه وضح، فقال: ما هذا البياض بك؟ فقال: سيف الله جلاه.
ودخل حارثة بن بدر على زياد وفي وجهه أثر، فقال زياد: ما هذا الأثر الذي في وجهك؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فجمح بي. فقال: أما إنك لو ركبت الأشهب لما فعل ذلك. فكنى حارثة بالأشقر عن النبيذ، وكنى زياد بالأشهب عن اللبن.
وقال معاوية للأحنف بن قيس: أخبرني عن قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم ... وسرّك أن يعيش فجىء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشّيء الملفّف في البجاد «1»
تراه يطوف في الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ما هذا الشيء الملفف في البجاد؟ قال الأحنف: السخينة «2» يا أمير المؤمنين. قال معاوية: واحدة بأخرى والبادي أظلم.
السخينة: طعام كانت تعمله قريش من دقيق، وهو الحريرة، فكانت تسبّ به؛ وفيه يقول حسان بن ثابت:
زعمت سخينة أن ستغلب ربّها ... وليغلبنّ مغالب الغلّاب
وقال آخر:
تعشوا من حريرتهم فناموا
ولما عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر وولّاها ابن أبي سرح دخل عمرو على عثمان وعليه جبة محشوّة، فقال له عثمان: ما حشو جبتك يا عمرو؟ قال:
أنا. قال: قد علمت أنك فيها. ثم قال له: يا عمرو، أشعرت أن اللّقاح «3» درّت بعدك ألبانها؟ فقال: لأنكم أعجفتم «4» أولادها.
فكنّى عثمان عن خراج مصر بالّلقاح، وكنّى عمرو عن جور الوالي بعده وأنه حرم الرزق أهل العطاء ووفّره على السلطان، بالإعجاف.
وكان في المدينة رجل يسمى جعدة، يرجّل شعره ويتعرّض للنساء المعزبات، فكتب رجل من الأنصار كان في الغزو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا هداك الله إنّا ... شغلنا عنكم زمن الحصار
يعقّلهنّ جعد شيظميّ ... وبئس معقّل الذّود الظّؤار «1»
فكنى بالقلائص عن النساء، وعرّض برجل يقال له جعدة. فسأل عنه عمر فدلّ عليه، فجزّ شعره ونفاه عن المدينة.
وسمع عمر بن الخطاب امرأة في الطواف تقول:
فمنهنّ من تسقى بعذب مبرّد ... نقاخ فتلكم عند ذلك قرّت «2»
ومنهنّ من تسقى بأخضر آجن ... أجاج ولولا خشية الله فرّت
ففهم شكواها، فبعث إلى زوجها فوجده متغيّر الفم، فخيّره بين خمسمائة درهم وطلاقها. فاختار الدراهم، فأعطاه وطلّقها.
ودخل على زياد رجل من أشراف البصرة، فقال. أين مسكنك من البصرة؟ قال:
في وسطها قال له: كم لك من الولد؟ قال: تسعة. فلما خرج من عنده قيل له: إنه ليس كذلك في كل ما سألته، وليس له من الولد إلا واحد، وهو ساكن في طرف البصرة. فلما عاد إليه سأله زياد عن ذلك، فقال له: ما كذبتك. لي تسعة من الولد، قدّمت منهم ثمانية فهم لي، وبقي معي واحد، فلا أدري ألي يكون أم عليّ؛ ومنزلي بين المدينة والجبّانة؛ فأنا بين الأحياء والأموات، فمنزلي في وسط البصرة. قال:
صدقت.
الكناية يورّى بها عن الكذب والكفر
لما هزم الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث وقتل أصحابه وأسر بعضهم، كتب إليه عبد الملك بن مروان أن يعرض الأسرى على السيف، فمن أقرّ منهم بالكفر خلّى سبيله، ومن أبي يقتله. فأتي منهم بعامر الشّعبي، ومطرّف بن عبد الله بن الشّخّير،وسعيد بن جبير. فأما الشعبي ومطرّف فذهبا إلى التعريض والكناية ولم يصرّحا بالكفر، فقبل كلامهما وعفا عنهما؛ وأما سعيد بن جبير فأبى ذلك فقتل.
وكان مما عرّض به الشعبي فقال: أصلح الله الأمير، نبا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا «1» الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال: صدق. والله ما برّوا بخروجهم علينا ولا قووا، خليا عنه. ثم قدم إليه مطرّف بن عبد الله، فقال له الحجاج: أتقرّ على نفسك بالكفر؟
قال: إنّ من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين، لجدير بالكفر. قال: خلّيا عنه. ثم قدّم إليه سعيد بن جبير؛ فقال له: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت بالله مذ آمنت به. قال: اضربوا عنقه.
ولما ولي الواثق وأقعد للناس أحمد بن أبي داود للمحنة في القرآن ودعا إليه الفقهاء، أتي فيهم بالحارث بن مسكين، فقيل له: اشهد أن القرآن مخلوق! قال: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هذه الأربعة مخلوقة. ومدّ أصابعه الأربع؛ فعرّض بها وكنّى عن خلق القرآن وخلّص مهجته من القتل. وعجز أحمد بن نصر فقيه بغداد عن الكناية فأباها، فقتل وصلب.
ودخل بعض النّساك على بعض الخلفاء فدعاه إلى طعامه، فقال: الصائم لا يأكل يا أمير المؤمنين، وما أزكّي نفسي، بل الله يزكّي من يشاء. وإنما كره طعامه.
ابن عرباض والخوارج:
الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: بينما ابن عرباض يمشي مقدّما بطنه، إذ استقبلته الخوارج يحزّون الناس بسيوفهم؛ فقال لهم: هل خرج إليكم في اليهود شيء؟
قالوا: لا. قال: فامضوا راشدين. فمضوا وتركوه.
ولقي شيطان الطاق رجلا من الخوارج وبيده سيف؛ فقال له الخارجي: والله لأقتلنّك أو تبرأ من عليّ. فقال: أنا من عليّ ومن عثمان بريء يريد أنه من عليّ، وبريء من عثمان.
أبو بكر بن أبي شيبة قال: قال الوليد بن عقبة على المنبر بالكوفة: أقسم على من سمّاني أشعر بركا «1» إلا قام. فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال له: ومن هذا الذي يقوم إليك فيقول: أنا الذي سميتك أشعر بركا؟ وكان هو الذي سمّاه بذلك.
وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: اصعد المنبر فالعن عليّا. فامتنع من ذلك وقال: أو تعفيني؟ قال: لا. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس، إن معاوية أمرني أن ألعن عليّا، فالعنوه لعنه الله.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید