المنشورات

الكناية والتعريض في طريق الدعابة

سئل ابن سيرين عن رجل، فقال: توفيّ البارحة. فلما رأى جزع السائل قال:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها
«3» وإنما أردت بالوفاة النوم.
ومرض زياد، فدخل عليه شريح القاضي يعوده، فلما خرج بعث إليه مسروق بن الأجدع يسأله: كيف تركت الأمير؟ قال: تركته يأمر وينهي. فقال مسروق: إن شريحا صاحب تعريض، فاسألوه. فسألوه. قال: تركته يأمر بالوصية، وينهي عن البكاء.
وكان سنان بن مكمّل النّميري يساير عمر بن هبيرة الفزاري يوما على بغلة فقال له ابن هبيرة: غضّ من عنان بغلتك. فقال: إنها مكتوبة، أصلح الله الأمير. أراد ابن هبيرة قول جرير:
فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وأراد سنان قول الشاعر:
لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «1»
ومر رجل من بني نمير برجل من بني تميم على يده باز، فقال التميمي للنّميري:
هذا البازي؟ قال له النّميري: نعم، وهو يصيد القطا. أراد التميميّ قول جرير:
أنا البازي المطل على نمير ... أتحت له من الجوّ انصبابا «2»
وأراد النميري قول الطّرمّاح:
تميم بطرق الّلؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
ابن يزيد الهلالي ومحاربي:
ودخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلالي وهو والي أرمينية، وقريب منه غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله بن يزيد: ما تركتنا شيوخ محارب ننام الليلة! فقال له المحاربي: أصلح الله الأمير، أو تدري لم ذلك؟ قال: ولم؟ قال: لأنها أضلت برقعا لها. قال قبّحك الله، وقبّح ما جئت به، أراد ابن يزيد الهلالي قول الأخطل:
تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر
وأراد المحاربي قول الشاعر:
لكلّ هلاليّ من الّلؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص
وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: استعرض لي هذين الفرسين فقال: أحدهما أجش «1» والآخر هزيم «2» . يعني قول النّجاشي:
ونجّى ابن هند سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرّماح دواني «3»
فقال معاوية: أما إنّ صاحبها على ما فيه لا يشبّب بكنائنه. وكان عبد الرحمن يرمى بكنّته.
وشاور زياد رجلا من ثقاته في امرأة يتزوجها، فقال: لا خير لك فيها، إني رأيت رجلا يقبلها، فتركه وخالفه إليها وتزوجها، فلما بلغ زيادا خبره أرسل إليه وقال له: أما قلت لي إنك رأيت رجلا يقبلها؟ قال: نعم، رأيت أباها يقبلها.
وقال أعرابي لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، احملني وسحيما على جمل. فقال:
نشدتك الله يا أعرابي، أسحيم هذا زق؟ قال: نعم. ثم قال: من لم ينفعه ظنّه لم ينفعه يقينه.
وودّع رجل رجلا كان يبغضه، فقال: امض في سرّ من حفظ الله، وحجاب من كلاءته «4» . ففطن له الرجل، فقال: رفع الله مكانك، وشدّ ظهرك، وجعلك منظورا إليك.
الشيباني قال: كان ابن أبي عتيق صاحب هزل ولهو، واسمه عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم وكانت له امرأة من أشراف قريش، وكان لها فتيات يغنّين في الأعراس والمآتم، فأمرت جارية منهن أن تغني بشعر لها قالته في زوجها، فتغنت الجارية وهو يسمع:
ذهب الإله بما تعيش به ... وقمرت لبّك أيّما قمر «5»
أنفقت مالك غير محتشم ... في كلّ زانية وفي الخمر فقال للجارية: لمن هذا الشعر؟ قالت: لمولاتي. فأخذ قرطاسا فكتبه وخرج به، فإذا هو بعبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: يا أبا عبد الرحمن، قف قليلا أكلّمك.
فوقف عبد الله بن عمر، قال: ما ترى فيمن هجاني بهذا الشعر؟ وأنشد البيتين. قال:
أرى أن تعفو وتصفح. قال: أما والله لئن لقيته لأنيكنّه! فأخذ ابن عمر ينكله ويزجره، وقال: قبّحك الله! ثم لقيه بعد ذلك بأيام، فلما أبصره ابن عمر أعرض عنه بوجهه، فاستقبله ابن أبي عتيق فقال له: سألتك بالقبر ومن فيه إلا سمعت مني حرفين. فولاه قفاه وأنصت له، قال: علمت أبا عبد الرحمن أني لقيت قائل ذلك الشعر ونكته. فصعق عبد الله ولبط «1» به فلما رأى ما نزل به دنا من أذنه وقال:
أصلحك الله، إنها امرأتي. فقام ابن عمر وقبل ما بين عينيه.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید