المنشورات

تكليف الرجل ما ليس من طبعه

قالوا ليس الفقه بالتفقّه؛ ولا الفصاحة بالتفصّح؛ لأنه لا يزيد متزيّد في كلامه إلا لنقص يجده في نفسه، ومما اتفقت عليه العرب والعجم قولهم: الطبع أملك.
وقال حفص بن النّعمان: المرء يصنع نفسه، فمتى ما تبله «2» ينزع إلى العرق. وقال العرجيّ:
يا أيّها المتحلّي غير شيمته ... ومن شمائله التّبديل والملق «3»
ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه ... إنّ التخلّق يأتي دونه الخلق
وقال آخر:
ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النّفس خيمها «4»
وقال آخر:
كل امريء راجع يوما لشيمته ... وإن تخلّق أخلاقا إلى حين
وقال الخريمي:
يلام أبو الفضل في جوده ... وهل يملك البحر ألّا يفيضا
وقال آخر:
ولائمة لامتك يا فيض في النّدى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
وقال حبيب:
تعوّد بسط الكفّ حتى لو أنّه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله
وقال آخر:
وقفّع أطرافهم قبضها ... فإن طلبوا بسطها تنكسر «1»
وقالوا: إن ملكا من ملوك فارس كان له وزير حازم مجرّب، فكان يصدر عن رأيه ويتعرّف اليمن في مشورته، ثم إنه هلك ذلك الملك وقام بعده ولد له، معجب بنفسه مستبد برأيه فلم ينزل ذلك الوزير منزلته ولا اهتبل «2» رأيه ومشورته؛ فقيل له: إن أباك كان لا يقطع أمرا دونه. فقال: كان يغلط فيه، وسأمتحنه بنفسي.
فأرسل إليه فقال له: أيّهما أغلب على الرجل: الأدب أو الطبيعة؟ فقال له الوزير:
الطبيعة أغلب، لأنها أصل والأدب فرع، وكلّ فرع يرجع إلى أصله. فدعا الملك بسفرته، فلما وضعت أقبلت سنانير بأيديها الشمع فوقفت حول السفرة، فقال للوزير: اعتبر خطأك وضعف مذهبك؛ متى كان أبو هذه السنانير شمّاعا؟ فسكت عنه الوزير وقال: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة. فقال: ذلك لك. فخرج الوزير فدعا بغلام له، فقال: التمس لي فأرا واربطه في خيط وجئني به. فأتاه به الغلام، فعقده في سبنيّة «3» وطرحه في كمّه، ثم راح من الغد إلى الملك، فلما حضرت سفرته أقبلت السنانير بالشمع حتى حفّت بها، فحل الوزير الفأر من سبنيّته ثم ألقاه إليها؛
فاستبقت السنانير إليه ورمت بالشمع، حتى كاد البيت يضطرم عليهم نارا فقال الوزير: كيف رأيت غلبة الطبع على الأدب ورجوع الفرع إلى أصله؟ قال: صدقت، ورجع إلى ما كان أبوه عليه معه.
فإنما مدار كل شيء على طبعه، والتكلف مذموم من كل وجه. قال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم: قل يا محمد: «وما أنا من المتكلفين» .
وقالوا: من تطبّع بغير طبعه نزعته العادة حتى تردّه إلى طبعه، كما أن الماء إذا أسخنته وتركته ساعة عاد إلى طبعه من البرودة، والشجرة المرة لو طلبتها بالعسل لا تثمر إلا مرا.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید