المنشورات

سوء الأدب

دخل عروة بن مسعود الثّقفي على النبي صلّى الله عليه وسلم: فجعل يحدّثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده السيف، فقال له:
اقبض يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك! فقبض يده عروة.
وعروة هذا عظيم القريتين الذي قالت فيه قريش: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
«1» ويقال: إنه الوليد بن المغيرة المخزومي.
النبي صلّى الله عليه وسلم ووفد تميم:
ولما قدم وفد تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم ناداه رجل منهم من وراء الجدار: يا محمد، اخرج إلينا. فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
«2» وفي قراءة ابن مسعود: (بنو تميم أكثرهم لا يعقلون) وأنزل الله في ذلك: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
«3» .
أبو بكر وبائع ثوب:
ونظر أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى رجل يبيع ثوبا، فقال له: أتبيع الثوب؟ قال: لا عافاك الله! قال. لقد علمتم لو تتعلمون: قل: لا، وعافاك الله.
وخطب الحسن في دم، فأجابه صاحب الدم فقال: قد وضعت ذلك الدم لله ولوجوهكم. قال له الحسن: ألا قلت: قد وضعت ذلك الدم لله خالصا؟
وذكر أعرابي رجلا بسوء الأدب فقال: إن حدثته سابقك إلى ذلك الحديث وإن تركته أخذ في التّرّهات «4» .
ودخل بعض الرواة على المهدي، فقال له: أنشدني قول زهير:
لمن الديار بقنّة الحجر
فأنشدها حتى أتى على آخرها. فقال له المهدي: ذهب والله من كان يقول هذا.
فقال له: كما ذهب والله من كان يقال فيه، فاستجهله واستحمقه.
المأمون وقطرب:
ولما رفع قطرب النحويّ كتابه في القرآن إلى المأمون، أمر له بجائزة وأذن له، فلما دخل عليه قال: قد كانت عدة أمير المؤمنين أرفع من جائزته، فغضب المأمون وهمّ به، فقال له سهل بن هارون: يا أمير المؤمنين، إنه لم يقل بذات نفسه، وإنما غلب عليه الحصر «1» : ألا تراه كيف يرشح جبينه ويكسر أصابعه! فسكن غضب المأمون واستجهله واستحمقه.
وكان الحسن اللؤلؤي ليلة عند المأمون بالرّقّة وهو يسامره، إذ نعس المأمون والحسن يحدّثه، فقال له: نعست يا أمير المؤمنين فانتبه! فقال: سوقي وربّ الكعبة! يا غلام، خذ بيده.
ودخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك بأرجوزته التي أوّلها:
الحمد لله الوهوب المجزل
وهي من أجود شعره! فلما أتى على قوله:
والشمس في الجوّ كعين الأحول
غضب هشام، وكان أحول، فأمر بصفع قفاه وإخراجه.
ودخل كثيّر عزّة على يزيد بن عبد الملك، فبينا هو يحدّثه إذ قال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قول الشمّاخ:إذا الأرطى توسّد أبرديه ... خدود جوازيء بالرّمل عين «1»
فقال يزيد: وماذا على أمير المؤمنين ألّا يعرف ما قال هذا الأعرابي الجلف مثلك؟
واستحمقه وأمر بإخراجه.
ودخل كثير عزة على عبد العزيز بن مروان فأنشده مدحته التي يقول فيها:
وأنت فلا تفقد ولا زال منكم ... إمام يحيّا في حجاب مسدّن «2»
أشمّ من الغادين في كلّ حلّة ... يميسون في صبغ من العصب متقن
لهم أزر حمر الحواشي يطونها ... بأقدامهم في الحضرميّ الملسّن «3»
فاستحسنها وقال له: سل حاجتك! فقال: توليني مكان ابن رمّانة كاتبك. فقال له: ويلك! ذا كاتب وأنت شاعر! فكيف تقوم مقامه وتسدّ مسدّه؟ فلما خرج من عنده ندم وقال:
عجبت لأخذي خطّة العجز بعدما ... تبيّن من عبد العزيز قبولها
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذا لا أقولها
[فهل أنت إن راجعتك القول مرّة ... بأحسن منها عائد فمنيلها؟]
ووقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأذن للأحنف ثم لمحمد ابن الأشعث، فأسرع محمد في مشيته حتى دخل قبل الأحنف، فلما رآه معاوية قال له:
والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله، وإنّا كما نلي أموركم كذلك نلي أدبكم، ولا تزيّد متزيّد في أمره إلا لنقص يجده في نفسه.
وقال عبد الملك بن مروان: ثلاثة لا ينبغي للعاقل أن يستخفّ بهم: العلماء، والسلطان، والإخوان؛ فمن استخف بالعلماء أفسد دينه، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته.
بين عمر بن عبد العزيز وأبي الزناد كاتبه:
وقال أبو الزناد: كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز، فكان يكتب إلى عبد الحميد عامله على المدينة في المظالم، فيراجعه فيها؛ فكتب إليه: إنه يخيل إليّ أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة، لكتبت إليّ: أضأنا أم معزا؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت إليّ: أذكرا أم أنثى؟ ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت: أصغيرا أم كبيرا؟
فإذا كتبت إليك في مظلمة فلا تراجعني فيها.
أبو جعفر وابن قتيبة:
وكتب أبو جعفر إلى سالم بن قتيبة، يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم بن عبد الله وعقر نخلهم. فكتب إليه: بأي نبدأ، بالدّور أو بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: إني لو أمرتك بإفساد تمرهم، لكتبت [إليّ] : بأي ذلك نبدأ، بالصّيحانيّ أم بالبرنيّ. وعزله وولى محمد بن سليمان.
ولمحمود الورّاق:
كم قد رأيت مساءة ... من حيث تطمع أو تسرّا
ولربما طلب الفتى ... لأخيه منفعة فضرّا
ودخل عدي بن أرطاة على شريح القاضي: فقال له: أين أنت أصلحك الله؟
قال: بينك وبين الحائط، قال: اسمع مني، قال: قل نسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: مكان سحيق، قال: وتزوّجت عندكم، قال: بالرفاه والبنين، قال: وولد لي غلام، قال: ليهنك الفارس، قال: وأردت أن أرحلها، قال: الرجل أحق بأهله، قال: وشرطت لها دارها، قال الشرط أملك، قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: علي ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك.
أراد شريح إقراره على نفسه بالشرط؛ فكان شريح صاحب تعريض عويص.
ودخل شريك بن عبد الله على اسماعيل وهو يتبخر بعود؛ فقال للخادم: جئنا بعود لأبي عبد الله. فجاء ببربط «1» ، فقال اسماعيل: اكسره. وقال لشريك: أخذوا البارحة في الحرس رجلا ومعه هذا البربط.
وقال بعض الشعراء في عيّ الخادم:
ومتى أدعها بكأس من الما ... ء بصحفة وزبيب
وقال حبيب في بني تغلب من أهل الجزيرة يصفهم بالجفاء وقلّة الأدب مع كرم النفوس:
لا رقّة الحضر الّلطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب
فإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النّفوس وقلّة الآداب
وكان فتى يجالس الشعبي، وكان كثير الصمت، فالتفت إلى الشعبي، فقال له: إني لأجد في قفاي حكّة، أفتأمرني بالحجامة؟ فقال الشعبي: الحمد لله الذي حوّلنا من الفقه إلى الحجامة.
قال: وأتى أحمد بن الخصيب بعض المتظلمين يوما، فأخرج رجله من الركاب فركله بها. فقال فيه الشاعر:
قل للخليفة: يا بن عم محمد ... اشكل وزيرك إنّه ركّال «2»
وبعث رجل من التجار وكيلا له إلى رجل من الأشراف يقتضيه مالا عليه، فرجع إليه مضروبا؛ فقال له: ويلك! مالك؟ قال: سبّك، فسببته، فضربني- قال:
وما قال لك؟ قال: قال أدخل أير الحمار في حر امّ من أرسلك! قال: دعني من افترائه عليّ وسبه لي، وأخبرني كيف جعلت أنت لأير الحمار من الحرمة ما لم تجعله لحر أمّ من أرسلك؟ هلا قلت: أير الحمار في هن أمّ من أرسلك.















مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید