المنشورات

تحنك الفتى

قيل لعمر بن الخطاب: إن فلانا لا يعرف الشرّ. قال: ذلك أحرى أن يقع فيه.
وقال سفيان الثوري: من لم يحسن أن يتغنّى لم يحسن أن يتقرّا.
وقال عمرو بن العاص: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعرف خير الشّرّين.
ومثل ذلك قول الشاعر:
رضيت ببعض الذّلّ خوف جميعه ... كذلك بعض الشرّ أهون من بعض
وسئل المغيرة بن شعبة عن عمر بن الخطاب، قال: كان والله له فضل يمنعه من أن يخدع، وعقل يمنعه من أن ينخدع.
وقال إياس: لست بخب «1» لا يخدعني.
وتجادل ابن سيرين والحسن، وكان الحسن يرى كلّ مسلم جائز الشهادة حتى يظهر عليه سقطة أو يجرّحه المشهود عليه، وكان إياس لا يرى ذلك؛ فأقبل رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! إنّ إياسا ردّ شهادتي. فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا واثلة، لم رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا. فقال له إياس: يا أبا سعيد يقول الله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ
«2» وهذا ما لا نرضاه.
عامر بن عبد الله وسرقة عطائه:
وكان عامر بن عبد الله بن الزبير في غاية الفضل والدين، وكان لا يعرف الشر، فبينا هو جالس في المسجد إذ أتي بعطائه، فقام إلى منزله فنسيه، فلما صار إلى بيته ذكره، فقال لخادمه: اذهب إلى المسجد فأتني بعطائي. فقال له: وأين نجده؟ قال:
سبحان الله! أو بقي أحد يأخذ ما ليس له.
وقال أبو أيوب: من أصحابي من أرتجى بركة دعائه ولا أقبل شهادته.
وذكرت فاطمة بنت الحسين عليهما السلام عند عمر بن عبد العزيز، وكان لها معظما، فقيل: إنها لا تعرف الشر. فقال عمر: عدم معرفتها بالشر جنّبها الشر.
وكانوا يستحسنون الحنكة للفتى والصّبوة «1» للحديث، ويكرهون الشيب قبل أوانه، ويشبّهون ذلك بيبوس الثمرة قبل نضجها، وإنّ ذلك لا يكون إلا من ضرر فيها.
فأنفع الإخوان مجلسا، وأكرمهم عشرة، وأشدهم حذقا، وأنبههم نفسا، من لم يكن بالشاطر المتفتّك، ولا الزاهد المتنسّك، ولا الماجن المتطرّف، ولا العابد المتقشّف. ولكن كما قال الشاعر:
يا هند هل لك في شيخ فتى أبدا ... وقد يكون شباب غير فتيان
وقال آخر:
وفتى وهو قد أناف على الخم ... سين يلقاك في ثياب غلام
وقال آخر:
فللنسك منّي جانب لا أضيعه ... وللهو منّي والبطالة جانب
وقال حبيب:
كهل الأناة فتى الشّذاة إذا غدا ... للرّوع كان القشعم الغطريفا «2»
ومن قولنا في هذا المعنى:
إذا جالس الفتيان ألفيته فتى ... وجالس كهل الناس ألفيته كهلا
ونظيره قول ابن حطّان:
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيّا فعدنان
وقول عمران بن حطان هذا يحتمل غير هذا المعنى، إلا أن هذا أقرب إليه وأشبه به، لأنه أراد أنه مع اليماني يماني، ومع العدناني عدناني، فيحتمل أن ذلك لخوف منه أو مساعدة؛ وكل ذلك داخل في باب الحنكة والحذق والتجربة.
وقالوا: اصحب البرّ لتتأسّى به، والفاجر لتتحنّك به.
وقالوا: من لم يصحب البرّ والفاجر ولم يؤدبه الرخاء والشدة، ولم يخرج من الظل إلى الشمس مرة، فلا ترجه.
ومن هذا قولهم: حلب فلان الدهر أشطره، وشرب أفاويقه. إذا فهم خيره وشرّه، فإذا نزل به الغنى عرفه ولم يبطره، وإذا نزل به البلاء صبر له ولم ينكره.
وقال هدبة العذريّ:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أتمنى الشرّ والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب
وقال عبد العزيز بن زرارة في هذا المعنى:
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق ... شتّى فصادفت منه اللين والفظعا
كلّا عرفت فلا النّعماء تبطرني ... ولا تخشّعت من لأوائه جزعا «1»
لا يملأ الأمر صدري قبل وقعته ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا
وقال آخر:
فإن تهدموا بالغدر داري فإنّها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا همّ ألقي بين عينيه عزمه ... وأضرب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلّا قائم السيف صاحبا «2»
سأغسل عنّي العار بالسيف جالبا ... عليّ قضاء الله ما كان جالبا
وسئلت هند عن معاوية، فقالت: والله لو جمعت قريش من أقطارها ثم رمي به في وسطها لخرج من أيّ أعراضها شاء.
وهذا نظير قول الشاعر:
برئت إلى الرحمن من كلّ صاحب ... أصاحبه إلّا عراك بن نائل
وعلمي به بين السّماطين أنّه ... سينجو بحّق أو سينجو بباطل
وقال آخر:
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنّني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
وما كنت أرضى الجهل خدنا وصاحبا ... ولكنّني أرضى به حين أحرج
فإن قال قوم إنّ فيه سماجة ... فقد صدقوا، والذّلّ بالحرّ أسمج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوّم ... ومن شاء تعويجي فإني معوّج «1»
وقال معاوية بن سفيان بن عوف الغامدي: هذا الذي لا يكفكف من عجلة، ولا يدفع في ظهره من بطء، ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثّفال «2» .
وقال الحسن بن هانيء:
من للجذاع إذا الميدان ما طلها ... بشأو مطّلع الغايات قد قرحا «3»
من لا يفصفص منه البؤس أنمله ... ولا يصعّد أطراف الرّبى فرحا
وقال جرير:
وابن الّلبون إذا مالزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «4»














مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید