المنشورات

طلب الرغائب واحتمال المغارم

في كتاب للهند: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن ترك الأمر الذي لعله أن ينال منه حاجته، مخافة ما لعله يوقّاه، فليس ببالغ جسيما؛ وإن الرجل ذا المروءة ليكون خامل الذّكر خافض المنزلة، فتأبى مروءته إلا أن يستعلي ويرتفع كالشّعلة من النار التي يصونها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا، وذو الفضل لا يخفى فضله وإن أخفاه، كالمسك الذي يختم عليه ثم لا يمنع ذلك ريحه من التّذكّي والظهور.
ومن قولنا في هذا المعنى:
ختمت فارة مسك ... فأبت إلّا التذكي «2»
ليس يخفى فضل ذي الفض ... ل بزور أو بإفك
والذي برّز في الفض ... ل غنيّ عن مزكي
ربما غمّ هلال ال ... فطر في ليلة شكّ
ثم جلّى وجهه النّو ... ر فجلّى كلّ حلك «3»
إنّ ظهر اليمّ لا تر ... كبه من غير فلك
ونظام الدرّ لا تع ... قده من غير سلك
ليس يصفو الذهب الا ب ... ريز إلّا بعد سبك
هذه جملة أمثا ... ل فمن شاء فيحكي
أبطلت كلّ يم ... انيّ وشاميّ ومكّي
ليس ذا من صوغ عي ... نيّ ولا من نسج عكي
وقالوا لا ينبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدى منزلتين: إما في الغاية من طلب الدنيا، وإما في الغاية من تركها. ولا ينبغي له أن يرى إلا في مكانين: إما مع الملوك مكرما، وإما مع العبّاد متبتّلا «1» . ولا يعدّ الغرم غرما إذا ما ساق غنما، ولا الغنم غنما إذا ما ساق غرما.
معاوية وعسكر علي يوم صفين:
ونظر معاوية إلى عسكر عليّ رضي الله عنه يوم صفين، فقال: من طلب عظيما خاطر بعظيمته. وأشار إلى رأسه.
وقال حبيب الطائي:
أعاذلتي ما أخشن الليل مركبا ... وأخشن منه في الملمات راكبه
ذريني وأهوال الزمان أقاسها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه
وقال كعب بن زهير:
وليس لمن لم يركب الهول بغية ... وليس لرحل حطّه الله حامل
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال الشمّاخ:
فتى ليس بالرّاضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحيّ بالمتولّج
فتى يملأ الشّيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكميّ المدّحج «2»
وقال امرؤ القيس:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي»
وقال آخر:
لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... أو أن أنال بنفعي من يرجّيني
لما خطبت من الدنيا مطالبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني
لكن منافسة الأعداء تحملني ... على أمور أراها سوف ترديني «2»
وكيف لا كيف أن أرضى بمنزلة ... لا دين عندي ولا دنيا تواتيني
وقال الحطيئة في هجائه الزّبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فاستعدى عليه عمر بن الخطاب وأسمعه الشعر، فقال: ما أرى بما قال بأسا.
قال: والله يا أمير المؤمنين ما هجيت ببيت قطّ أشدّ منه. فأرسل إلى حسان فسأله:
هل هجاه؟ فقال: ما هجاه، ولكنه سلح عليه.
لشاعر محدث:
وقد أخذ هذا المعنى من الحطيئة بعض المحدثين. فقال:
إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خزّ الثياب وتشبعوا
فإذا تذوكرت المكارم مرّة ... في مجلس أنتم به فتقنّعوا
وقالوا: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن طلب العظائم خاطر بعظيمته.
وقال يزيد بن عبد الملك، لما أتي برأس يزيد بن المهلب، فنال منه بعض جلسائه، فقال: إن يزيد ركب عظيما، وطلب جسيما، ومات كريما.
لبعض الشعراء:
وقال بعض الشعراء:
لا تقنعنّ ومطلب لك ممكن ... فإذا تضايقت المطالب فاقنع
ومما جبل عليه الحرّ الكريم ألّا يقنع من شرف الدنيا والآخرة بشيء مما انبسط له، أملا فيما هو أسنى منه درجة وأرفع منزلة؛ ولذلك قال عمر بن عبد العزيز لدكين الراجز: إنّ لي نفسا توّاقة؛ فإذا بلغك أني صرت إلى أشرف من منزلتي هذه؛ فبعين ما أرينّك. قال له ذلك وهو عامل المدينة لسليمان بن عبد الملك. فلما صارت إليه الخلافة قدم عليه دكين. فقال له: أنا كما أعلمتك أنّ لي نفسا توّاقة؛ وأنّ نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا فلما بلغتها وجدتها تتوق إلى أشرف منازل الآخرة.
ومن الشاهد لهذا المعنى، أنّ موسى صلوات الله عليه لما كلمه الله تكليما، سأله النظر إليه. إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرف من المنزلة التي نالها، فانبسط أمله إلى ما لا سبيل إليه. ليستدل بذلك أنّ الحرّ الكريم لا يقنع بمنزلة إذا رأى ما هو أشرف منها.
ومن قولنا في هذا المعنى:
والحرّ لا يكتفي من نيل مكرمة ... حتى يروم التي من دونها العطب «1»
يسعى به أمل من دونه أجل ... إن كفّه رهب يستدعه رغب
لذاك ما سال موسى ربّه أرني ... أنظر إليك وفي تسآله عجب
يبغي التزيّد فيما نال من كرم ... وهو النجيّ لديه الوحي والكتب
وقال تأبّط شرّا في ابن عم له يصفه بركوب الأهوال وبذل الأموال:
وإني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عمّ الصّدق شمس بن مالك
أهزّ به في ندوة الحيّ عطفه ... كما هزّ عطفي بالهجان الأوارك «2»
قليل التشكّي للمهمّ يصيبه ... كثير النّوى شتّى الهوى والمسالك
يظل بموماة ويمسى بغيرها ... وحيدا ويعروري ظهور المهالك «1»
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدّه المتدارك «2»
إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كاليء من قلب شيحان فاتك «3»
ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلّة من جفن أخلق بانك «4»
إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك
وقال غيره من الشعراء [بل هي له أيضا] :
إذا المرء لم يحتل وقد جدّ جدّه ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الأمر إلا وهو للقصد مبصر
فذاك قريع الدهر ما عاش حوّل ... إذا سدّ منه منخر جاش منخر «5»
باب الحركة والسكون
قال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة: ابن آدم؛ خلقت من الحركة للحركة، فتحرّك وأنا معك.
وفي بعض الكتب: ابن آدم؛ امدد يدك إلى باب من العمل أفتح لك بابا من الرزق.
وشاور عتبة بن ربيعة أخاه شيبة بن ربيعة في النّجعة «6» ؛ وقال: إني قد أجدبت، ومن أجدب انتجع. فذهبت مثلا. قال له شيبة: ليس من العز أن تتعرض للذل فذهبت مثلا. فقال عتبة: لن يفرس الليث الطّلا «1» وهو رابض. فذهبت مثلا.
أخذه حبيب فقال:
أراد بأن يحوي الغنى وهو وادع ... ولن يفرس الليث الطّلا وهو رابض
وقيل لأعشى بكر: إلى كم هذه النّجعة والاغتراب؟ أما ترضى بالخفض والدعة؟
فقال: لو دامت الشمس عليكم لمللتموها: أخذه حبيب فقال:
وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد
فإنّي رأيت الشّمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد «2»
قال أبو سعيد أحمد بن عبد الله المكيّ: سمعت الشافعي يقول: قلت بيتين من الشعر. وأنشدنا:
إني أرى نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها خوض المهامه والقفر
فو الله ما أدري إلى الخفض والغنى ... أقاد إليها أم أقاد إلى قبري «3»
فدخل مصر فمات.
وقال موسى بن عمران عليه السلام: لا تذموا السفر، فإني أدركت فيه ما لم يدركه أحد. يريد أن الله عز وجل كلّمه فيه تكليما.
وقال المأمون: لا شيء ألذّ من سفر في كفاية، لأنك في كل يوم تحلّ محلة لم تحلها، وتعاشر قوما لم تعاشرهم.
وقال الشاعر:
لا يمنعنّك خفض العيش في دعة ... من أن تبدّل أوطانا بأوطان
تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وإخوانا بإخوان

مع أن المقام بالمقام الواحد يورث الملالة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم «زر غبّا» تزدد حبّا «1» .
وقالت الحكماء: لا تنال الراحة إلا بالتّعب، ولا تدرك الدّعة إلا بالنّصب.
وقال حبيب:
بصرت بالرّاحة العظمى فلم ترها ... تنال إلّا على جسر من التّعب
وقال أيضا:
على أنّني لم أحو وفرا مجمّعا ... ففزت به إلا بشمل مبدّد
ولم تعطني الأيام نوما مسكّنا ... ألذّ به إلا بنوم مشرّد
وقال أيضا:
وركب كأطراف الأسنّة عرّسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه «2»
لأمر عليهم أن تتمّ صدوره ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبه
وبعد فهل يجوز في وهم أو يتمثل في عقل أو يصحّ في قياس، أن يحصد زرع بغير بذر، أو تجنى ثمرة بغير غرس، أو يوري زند بغير قدح، أو يثمر مال بغير طلب؟.
ولهذا قال الخليل بن أحمد: لا تصل إلى ما تحتاج إليه إلا بالوقوف على ما لا تحتاج إليه، فقال له أبو شمر المتكلّم: فقد احتجت إذا إلى ما لا تحتاج إليه، إذ كنت لا تصل إلى ما تحتاج إليه إلا به. قال الخليل: ويحك! وهل يقطع السيف الحسام إلا بالضرب، أو يجري الجواد إلا بالرّكض، أو هل تنال نهاية إلا بالسعي إليها والإيضاع نحوها. وقد يكون الإكداء «3» مع الكد، والخيبة مع الهيبة.
وقال الشاعر:
وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين
وأدّرع الخوف تحت الرّجاء ... وأستصحب الجدي والفرقدين «1»
وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفيّ حنين «2»
إلى أن أكون على حالة ... مقلا من المال صفر اليدين
فقير الصّديق غنيّ العدو ... قليل الجداء عن الوالدين
ومثل هذا قليل في كثير، وإنما يحكم بالأعم والأغلب، والنّجع مع الطلب والحرمان للعجز أصحب.
لحبيب:
وقد شرح حبيب هذا المعنى فقال:
همّ الفتى في الأرض أغصان الغنى ... غرست وليست كلّ حين تورق
للحمدوني:
وقال إسماعيل بن إبراهيم الحمدوني في المطالب:
لك ألحاظ مراض ودلّ ... غير أنّ الطّرف عنها أكلّ «3»
وأرى خدّيك وردا نضيرا ... قد جاءه من دمع عينّي طلّ
عذبة الألفاظ لو لم يشنها ... كرّ تفنيد بسمعي يضل «4»
إنّ عزّى التي أنفت بي ... عن سواها كثرها لي قلّ
ظلت في أفياء ظلك حتى ... ظلّ فوقي للمتالف ظلّ «5»
إن أولى منك بي لمرام ... لا يجلّ الهول حيث يحلّ
ما مقامي وحسامي قاطع ... وسناني صارم ما يفلّ
وسناني مثل روضة حزن ... أضحكتها ديمة تستهلّ
ودليلي بين فكّيّ يعلو ... كلّ صعب ريّض فيذلّ «1»
ثملا من خمرة العجز أسقى ... نهلا من بعده لي علّ «2»
إن يكن قربك عندي جليلا ... فأقلّ الحزم منه أجلّ
أقعيدا للقعيدة إلفا ... كلّ إلف بي لعدمي مخلّ
ويك ليس اللّيث للّيث يضحي ... مخرجا من غيله وهو كلّ «3»
فاتركي عتبا ولوما ودعي ... وعلى الإقتار عينك سجل
هو سيف غمده بردتاه ... ينتضيه الحزم حين يسلّ
لا يشكّ السّمع حين يراه ... أنّه بالبيد سمع أزلّ «4»
بين ثوبيه أخو عزمات ... يتّقيها الحادث المصمئلّ «5»
ليس تنبو بي رجال وبيد ... إنّ لبابي منزل ومحل
فأقلي بعض عذل مقل ... لا يرى صرف الزمان يقلّ
إنّ وخد العيش إثمار رزق ... يجتنيها المسهب المشمعلّ «6»
لا تفليّ حدّ عزمي بلوم ... إنّني للعزم والدر خلّ
فالفتى من ليس يرعى حماه ... طمعا يوما له مستزلّ
من إذا خطب أظلّ عليه ... فله صبر عليه مظلّ
يصحب الليل الوليد إلى أن ... يهرم الليل وما إن يملّ
ويرى السير قد يلجلج منه ... مضغة لكنّها لا تصلّ «1»
شمّرت أثوابه تحت ليل ... ثوبه ضاف عليه رفلّ «2»
سأضيع النّوم كيما تريني ... ومضيعي معظم لي مجلّ
فابتناء العزّ هدم المهاري ... وانحلال العدم سير وحلّ «3»












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید