المنشورات

صنوف المال

قال معاوية لصعصعة بن صوحان: إنما أنت هاتف بلسانك، لا تنظر في أود «1» الكلام ولا في استقامته: فإن كنت تنظر في ذلك فأخبرني عن أفضل المال.
فقال: والله يا أمير المؤمنين، إني لأدع الكلام حتى يختمر في صدري، فما أرهف «2» به ولا أتلهّق «3» فيه حتى أقيم أوده، وأحرّر متنه، وإن أفضل المال لبرّة سمراء في تربة غبراء؛ أو نعجة صفراء في روضة خضراء؛ أو عين خرّارة في أرض خوّارة. قال معاوية: لله أنت، فأين الذهب والفضة. قال: حجران يصطكّان، إن أقبلت عليهما نفدا، وإن تركتهما لم يزيدا.
وقيل لأعرابية: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: قنى. قيل لها: فمائة من الضأن؟ قالت غنى. قيل لها: فمائة من الإبل؟ قالت: منى.
وقال عبد الله بن الحسن: غلّة الدور مسألة، وغلة النّخل كفاف، وغلة الحبّ ملك.
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
وفي الحديث: «أفضل أموالكم: فرس في بطنها فرس يتبعها فرس، وعين ساهرة لعين نائمة» .
وأنشد فرج بن سلام لبعض العراقيين:
ولقد أقول لحاجب نصحا له ... خلّ العروض وبع أرضا «1»
إني رأيت الأرض يبقى نفعها ... والمال يأكل بعضه بعضا
واحذر أناسا يظهرون محبّة ... وعيونهم وقلوبهم مرضى
حتى إذا أمكنتهم من فرصة ... تركوا الخداع وأظهروا البغضا
تدبير المال
قالوا: لا مال لأخرق «2» ، ولا عيلة على مصلح، وخير المال ما أطعمك لا ما أطعمته.
وقال صاحب كليلة ودمنة: لينفق ذو المال ماله في ثلاثة مواضع: في الصدقة إن أراد الآخرة: وفي مصانعة السلطان إن أراد الذكر؛ وفي النساء إن أراد نعيم العيش.
وقال: إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة ولا يدركها إلا بأربعة؛ فأما الثلاثة التي يطلب: فالسّعة في المعيشة، والمنزلة في الناس، والزاد إلى الآخرة، وأما الرابعة التي تدرك بها هذه الثلاثة: فاكتساب المال من أحسن وجوهه، وحسن القيام عليه، ثم التّثمير له، ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان ويعود في الآخرة نفعه. فإن أضاع شيئا من هذه الأربعة لم يدرك شيئا من هذه الثلاثة. إن لم يكتسب لم يكن له مال يعيش به؛ وإن كان ذا مال واكتساب ولم يحسن القيام عليه يوشك أن يفنى ويبقى بلا مال، وإن هو أنفقه ولم يثمّره لم تمنعه قلة الإنفاق من سرعة النفاد.
كالكحل الذي إنما يؤخذ منه على الميل مثل الغبار، ثم هو مع ذلك سريع نفاده. وإن هو اكتسب وأصلح وثمّر ولم ينفق الأموال في أبوابها؛ كان بمنزلة الفقير الذي لا مال له، ثم لا يمنع ذلك ماله من أن يفارقه ويذهب حيث لا منفعة فيه؛ كحابس الماء في الموضع الذي تنصبّ فيه المياه، إن لم يخرج منه بقدر ما يدخل فيه؛ مصل «1» وسال من نواحيه، فيذهب الماء ضياعا.
وهذا نظير قول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً
«2» . وقوله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً
«3» .
ونظر عبد الله بن عباس إلى درهم بيد رجل، فقال له: إنه ليس لك حتى يخرج من يدك. يريد أنه لا ينتفع به حتى ينفقه ويستفيد غيره مكانه.
قال الحطيئة:
مفيد ومتلاف إذا ما سألته ... تهلّل واهتزّ اهتزاز المهنّد
وقال مسلم بن الوليد:
لا يعرف المال إلّا ريث ينفقه ... أو يوم يجمعه للنّهب والبدد
وقال آخر:
مهلك مال ومفيد مال
وقال سفيان الثوري: من كان في يده شيء فليصلحه؛ فإنه في زمان إن احتاج فيه، فأول ما يبذله دينه.
وقال المتلمّس:
وحبس المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
سعد القصير قال: ولأني عتبة أمواله بالحجاز، فلما ودّعته قال لي: يا سعد، تعاهد صغير مالي فيكثر، ولا تضيّع كثيره فيصغر، فإنه ليس يشغلني كثير مالي عن إصلاح قليله، ولا يمنعني قليل ما في يدي عن الصبر على كثير ما ينوبني. قال: فقدمت المدينة، فحدّثت بها رجالات قريش ففرّقوا بها الكتب على الوكلاء.
الإقلال
قال أرسطاطاليس: الغنى في الغربة وطن والمقل في أهله غريب.
أخذه الشاعر فقال:
لعمرك ما الغريب بذي التّنائي ... ولكنّ المقلّ هو الغريب
إذا ما المرء أعوز ضاق ذرعا ... بحاجته وأبعده القريب
وقال إبراهيم الشيباني: رأيت في جدار من جدر بيت المقدس بيتين مكتوبين بالذهب:
فكلّ مقلّ حين يغدو لحاجة ... إلى كلّ من يلقى من الناس مذنب
وكان بنو عمي يقولون مرحبا ... فلما رأوني مقترا مات مرحب
ومن قولنا في هذا المعنى:
أعاذل قد المت ويك فلومي ... وما بلغ الإشراك ذنب عديم
لقد أسقطت حقّي عليك صبابتي ... كما أسقط الإفلاس حقّ غريم «1»
وأعذر ما أدمى الجفون من البكا ... كريم رأى الدّنيا بكفّ لئيم
أرى كلّ فدم قد تبجّح في الغنى ... وذو الطرف لا تلقاه غير عديم «2»
وقال الحسن بن هانيء:
الحمد لله ليس لي نشب ... فخفّ ظهري وملّني ولدي «3»
من نظرت عينه إليّ فقد ... أحاط علما بما حوته يدي
وكان أبو الشّمقمق الشاعر أديبا طريفا محارفا «1» صعلوكا متبرّما، قد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج، فنظر من فرج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له، وإلّا سكت عنه، فأقبل إليه بعض إخوانه فدخل عليه، فلما رأى سوء حاله، قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث أن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. قال: إن كان والله ما تقول حقا لأكوننن بزّازا يوم القيامة، ثم أنشأ يقول.
أنا في حال تعالى لله ... ربي أيّ حال
ولقد أهزلت حتى ... محت الشمس خيالي
من رأى شيئا محالا ... فأنا عين المحال
ليس لي شيء إذ قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتى ... حلّ أكلي لعيالي
في حر امّ الناس طرّا ... من نساء ورجال
لو أرى في الناس حرّا ... لم أكن في ذا المثال
وقال أيضا:
أتراني أرى من الدهر يوما ... لي فيه مطيّة غير رجلي
كلما كنت في جميع فقالوا ... قرّبوا للرّحيل قرّبت نعلي
حيثما لا أخلّف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي
وقال أيضا:
لو قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم مالي فيه تلبيس «2»
والله يعلم مالي فيه شابكة ... إلّا الحصيرة والأطمار والدّيس «3»
وقال أيضا:
برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السّحاب
فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... عليّ مسلّما من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السّحاب إلى التّراب
ولا انشقّ الثرى عن عود تخت ... أؤمّل أن أشدّ به ثيابي
ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي «1»
ولا حاسبت يوما قهرمانا ... محاسبة فأغلط في حسابي «2»
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبدا ودابي
وفي كتاب للهند: ما التّبع والإخوان والأهل والأصدقاء والأعوان والحشم إلا مع المال، وما أرى المروءة يظهرها إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا المال، ووجدت من لا مال له إذا أراد أن يتناول أمرا قعد به العدم، فيبقى مقصّرا عما أراد، كالماء الذي يبقى في الأودية من مطر الصيف، فلا يجري إلى بحر ولا نهر، بل يبقى مكانه حتى تنشفه الأرض؛ ووجدت من لا إخوان له لا أهل له. ومن لا ولد له لا ذكر له، ومن لا عقل له لا دنيا له ولا آخرة له، ومن لا مال له لا شيء له؛ لأن الرجل إذا افتقر رفضه إخوانه وقطعه ذو رحمه، وربما اضطرته الحاجة لنفسه وعياله إلى التماس الرزق بما يغرّر فيه بدينه ودنياه، فإذا هو قد خسر الدنيا والآخرة، فلا شيء أشدّ من الفقر، والشجرة النابتة على الطريق المأكولة من كل جانب أمثل حالا من الفقير المحتاج إلى ما في أيدي الناس. والفقر داع صاحبه إلى مقت الناس، ومتلف للعقل والمروءة، ومذهب للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمع للبلايا؛ ووجدت الرجل إذا افتقر أساء به الظنّ من كان له مؤتمنا، وليس من خصلة هي للغنىّ مدح وزين إلا وهي للفقير ذمّ وشين؛ فإن كان شجاعا قيل أهوج، وإن كان جوادا قيل مفسد، وإن كان حليما قيل ضعيف، وإن كان وقورا قيل بليد، وإن كان صموتا قيل عييّ، وإن كان بليغا قيل مهذار «1» ؛ فالموت أهون من الفقر الذي يضطرّ صاحبه إلى المسألة، ولا سيما مسألة اللئام؛ فإنّ الكريم لو كلّف أن يدخل يده في فم تنّين ويخرج منه سمّا فيبتلعه، كان أخفّ عليه من مسألة البخيل اللئيم.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید