المنشورات

كبرة السنّ

قيل لأعرابي قد أخذته كبرة السن: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت تقيّدني الشعرة وأعثر بالبعرة؛ قد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره «1» .
وقال آخر: لقد كنت أنكر البيضاء، فصرت أنكر السوداء، فيا خير مبدول ويا شرّ بدل.
معاوية والمستوغر:
ودخل المستوغر بن ربيعة على معاوية بن أبي سفيان وهو ابن ثلاثمائة سنة؛ فقال:
كيف تجدك يا مستوغر؟ فقال: أجدني يا أمير المؤمنين قد لان مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، وابيض مني ما كنت أحب أن يسودّ، واسودّ مني ما كنت أحب أن يبيض، ثم أنشأ يقول:
سلني أنبّئك بآيات الكبر ... نوم العشاء وسعال بالسّحر
وقلّة النّوم إذا الليل اعتكر ... وقلة الطّعم إذا الزّاد حضر
وسرعة الطرف وتحميج النظر ... وتركك الحسناء في قبل الظهر «2»
والناس يبلون كما يبلى الشّجر
وقال أعرابي:
أشكو إليك وجعا بركبتي ... وهدجانا لم يكن في مشيتي «3»
كهدجان الرّأل خلف الهيقت «4»
وقال آخر:
وللكبير رثيات أربع ... الرّكبتان والنّسا والأخدع «5»
وقال جرير:
تحنّ العظام الرّاجفات من البلى ... وليس لداء الركبتين طبيب
وقال أعرابي في امرأة:
يا بكر حوّاء من الأولاد ... وأقدم العالم في البلاد
عمرك ممدود إلى التّناد ... فحدّثينا بحديث عاد «1»
ومبتدا فرعون ذي الأوتاد ... وكيف جاء السيل بالأطواد
وقال آخر:
إذا عاش الفتى سبعين عاما ... فقد ذهب المسرّة والفتاء
كان في غطفان نصر بن دهمان؛ قاد غطفان وسادها حتى خرف وعمّر تسعين ومائة سنة، حتى اسود شعره ونبتت أضراسه وعاد شابا؛ فلا يعرف في العرب أعجوبة مثله.
وقال محمد بن مناذر في رجل من المعمّرين:
إنّ معاذ بن مسلم رجل ... قد ضجّ من طول عمره الأبد
قد شاب رأس الزمان واكتهل الده ... ر وأثواب عمره جدد
يا نسر لقمان كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد «2»
قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنّك الوتد
تسأل غربانها إذا حجلت ... كيف يكون الصّداع والرمد
عبد الملك والشعبي:
ودخل الشعبي على عبد الملك بن مروان، فوجده قد كبا مهتما، فقال: ما بال أمير المؤمنين؟ قال: يا شعبي؛ ذكرت قول زهير:
كأنّي وقد جاوزت سبعين حجّة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برام
فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ... ولكنّني أرمى بغير سهام
على الراحتين تارة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي
قال له الشعبي: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة، وقد بلغ سبعين سنة:
كأني وقد جاوزت سبعين حجّة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا
فلما بلغ سبعا وسبعين سنة قال:
باتت تشكّي إليّ النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا ... وفي الثلاث وفاء للثمانينا
فلما بلغ مائة سنة قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الخلق كيف لبيد
فلما بلغ مائة سنة وعشرا قال:
أليس في مائة قد عاشها رجل ... وفي تكامل عشر بعدها عمر
فلما بلغ ثلاثين ومائة وقد حضرته الوفاة قال:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر
فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع ولا خان الخليل ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
قال الشعبي: فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعا أن يعيشها.
وقال لبيد أيضا:
أليس ورائي إن تراخت منيّتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبّر أخبار القرون التي مضت ... أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع
فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه ... تقادم عهد القين والنّصل قاطع «1»
ويقال: مكتوب في الزبور: من بلغ السبعين اشتكى من غير علة.
وقال محمد بن حسان النبطي: لا تسأل نفسك العام ما أعطتك في العام الماضي.
وقال معاوية لما أسنّ: ما مرّ شيء كنت أستلذه وأنا شاب فأجده اليوم كما أجده، إلا اللبن والحديث الحسن.
عاش ضرار بن عمر حتى ولد له ثلاثة عشر ذكرا، فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه.
وقال ابن أبي فنن:
من عاش أخلقت الأيام جدّته ... وخانه ثقتاه السمع والبصر
قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إنّ الشباب جنون برؤه الكبر
قال أبو عبيدة: قيل لشيخ: ما بقي منك؟ قال: يسبقني من أمامي، ويدركني من خلفي، وأذكر القديم، وأنسى الحديث، وأنعس في الملا، وأسهر في الخلا، وإذا قمت قربت الأرض مني، وإذا قعدت تباعدت عني.
وقال حميد بن ثور الهلالي:
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
وقال آخر:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء «2»
ودعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السلامة داء
وقال أبو العتاهية، ويروى للقطامي:
أسرع في نقص امريّ تمامه
وقالت الحكماء: ما زاد شيء إلا نقص، ولا قام إلا شخص.
وقال بعض المحدثين:
ألست ترى أن الزمان طواني ... وبدّل عقلي كلّه وبراني «1»
تحيّفني عضوا فعضوا فلم يدع ... سوى اسمي صحيحا وحده ولساني «2»
ولو كانت الأسماء يدخلها البلى ... إذا بلي اسمي لامتداد زماني
وما لي لا أبلى لسبعين حجّة ... وسبع أتت من دونها سنتان
إذا عنّ لي شيء تخيّل دونه ... شبيه ضباب أو شبيه دخان
وقال الغزّال:
أصبحت والله محمودا على أمد ... من الحياة قصير غير ممتد
حتى بقيت بحمد الله في خلف ... كأنّني بينهم من وحشة وحدي
وما أفارق يوما من أفارقه ... إلّا حسبت فراقي آخر العهد
وقال آخر:
يا من لشيخ قد تخدّد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا «3»
سوداء حالكة وسحق مفوّف ... وأجدّ لونا بعد ذاك هجانا «4»
قصر الليالي خطوه فتدانى ... وحنين قائم صلبه فتحانى
صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه شدّة وليانا
والموت يأتي بعد ذلك كلّه ... وكأنّما يعني بذاك سوانا
وقال سفيان الثوري في مدح كبره:
إنّي وإن كان مسّني كبر ... على ما قد ترين من كبري
أعرف من قبل أن تفارقني ... موقع سهمي والسهم في الوتر










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید