المنشورات

صحب من ليس من نظرائه لخصال فيه

كان حارثة بن بدر الغداني فارس بني تميم، وكان شاعرا أديبا ظريفا، وكان يعاقر الشراب ويصحب زيادا، فقيل لزياد: إنك تصحب هذا الرجل وليس من شاكلتك. إنه يعاقر الشراب. فقال: كيف لا أصحبه ولم أسأله عن شيء قط إلا وجدت عنده منه علما، ولا مشى أمامي فاضطرني أن أناديه، ولا مشى خلفي فاضطرني أن التفت إليه، ولا راكبني فمسّت ركبتي ركبته. فلما هلك زياد قال فيه حارثة بن بدر:
أبا المغيرة والدّنيا مغرّرة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للتنكير تنكير
لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير «1»
وتمام هذه الأبيات قد وقعت في الكتاب الذي أفردناه للمراثي.
وكان زياد لا يداعب أحد في مجلسه ولا يضحك، فاختصم إليه بنو راسب وبنو الطفاوة في غلام أثبته هؤلاء وهؤلاء، فتحيّر زياد في الحكم، فقال له حارثة، بن بدر: عندي أكرم الله الأمير في هذا الغلام أمر، إن أذن لي الأمير تكلمت به فيه.
قال: وما عندك فيه؟ قال: أرى أن يلقى في دجلة، فإن رسب فهو لبني راسب، وإن طفا فهو لبني الطفاوة! فتبسم زياد وأخذ نعليه ودخل، ثم خرج فقال لحارثة: ما حملك على الدعابة في مجلسي؟ قال: طيبة حضرتني، أصلح الله الأمير خفت أن تفوتني، قال: لا تعد إلى مثلها.
ابن زياد وحارثة وأبو الأسود:
ولما ولي عبيد الله بن زياد بعد موت أبيه، اطّرح حارثة بن بدر وجفاه، فقال له حارثة: مالك لا تنزلني التي كان ينزلني أبوك؟ أتدّعي أنك أفضل منه أو أعقل؟
قال له: إنّ أبي كان برع في الفضل بروعا لا تضره صحبة مثلك. وأنا حدث أخشى أن تحرقني بنارك؛ فإن شئت فاترك الشراب وتكون أول داخل وآخر خارج.
قال: والله ما تركته لله فكيف أتركه لك؟ قال: فتخير بلدا أولّيكه. فاختار سرّق من أرض العراق، فولاه إياها. فكتب إليه أبو الأسود الدؤلي وكان صديقا له:
أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق
وباه تميما بالغنى، إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق «1»
وما الناس إلّا اثنان إمّا مكذّب ... يقول بما يهوى وإمّا مصدّق
يقولون أقوالا ولا يحكمونها ... فإن قيل يوما حقّقوا لم يحقّقوا
فدع عنك ما قالوا ولا تكترث بهم ... فحظّك من مال العراقين سرّق
فوقّع في أسفل كتابه: لا بعد عليك الرشد.
ابن الوليد البجلي وابن بيض:
وكان ابن الوليد البجلي، وهو ابن أخت خالد بن عبد الله القسري، ولي أصبهان، وكان رجلا متسمّتا «2» متصلّحا، فقدم عليه حمزة بن بيض وبن عوف في صحبته، فقيل له: إن حمزة لا يصحب مثلك؛ لأنه صاحب كلاب ولهو. فبعث إليه ثلاثة آلاف درهم وأمره بالانصراف. فقال فيه:
يا بن الوليد المرتجى سيبه ... ومن يجلّي الحدث الحالكا
سبيل معروفك منّي على ... بال فما بالي على بالكا
حشو قميصى شاعر مفلق ... والجود أمسى حشو سربالكا
يلومك النّاس على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرّامكا «3»
إن كنت لا تصحب إلّا فتى ... مثلك لن تؤتى بأمثالكا
هبني امرء اجئت أريد الهدى ... فجد على جهلي بإسلامكا
قال له: صدقت! وقرّبه وحسنت عنده منزلته.
وكان عبد الرحمن بن الحكم الأمير قد عتب على ندمائه، فأمر نصرا الفتى بإسقاطهم من ديوان عطائه ولم يستبدل بهم؛ فلما كان بعد أيام استوحش لهم، فقال لنصر: قد استوحشنا لأصحابنا أولئك! فقال له نصر: قد نالهم من سخط الأمير ما فيه أدب لهم؛ فإن رأى أن يرسل فيهم أرسلت. قال: أرسل. فأقبل القوم وعليهم كآبة السخط، فأخذوا مجالسهم ولم ينشرحوا ولا خاضوا فيما كانوا يخوضون فيه، فقال الأمير لنصر: ما يمنع هؤلاء من الانشراح؟ قال: عليهم أبقى الله الأمير وجمة «1» السخط الذي نالهم، قال: قل لهم: قد عفونا فلينشرحوا. قال: فقام عبد الرحمن بن الشمر الشاعر المتنجم، فجثا بين يديه، ثم أنشده شعرا له أقذع فيه على بعض أصحابه إلا أنه ختمه ببيتين بديعين، وهما:
فيا رحمة الله في خلقه ... ومن جوده أبدا يسكب
لئن عفت صحبة أهل الذّنوب ... لقلّ من الناس من تصحب
وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرّجال المهذّب؟ «2»
قولهم في القرآن
كتب المريسيّ إلى أبي يحيى منصور بن محمد: اكتب: القرآن خالق أو مخلوق؟
فكتب إليه: عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة، وممن لا يرغب بنفسه عن الجماعة، فإنه إن تفعل فأعظم بها منّة، وإن لا تفعل فهي الهلكة، ونحن نقول: إن الكلام في القرآن بدعة، يتكلف المجيب ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقا إلا الله، وما سوى الله فمخلوق؛ والقرآن كلام الله، فانته بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها فتكون من المهتدين، ولا تسمّ القرآن باسم من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.









مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید