المنشورات

كتاب الزمردة في المواعظ والزهد

لابن عبد ربه:
قال أحمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأمثال، وما تفننوا فيها على كل لسان، ومع كل زمان؛ ونحن نبدأ بعون الله وتوفيقه بالقول في الزهد ورجاله المشهورين به، ونذكر المنتخل من كلامهم، والمواعظ التي وعظت بها الأنبياء، واستخلصتها الآباء للأبناء، وجرت بين الحكماء والأدباء؛ ومقامات العبّاد بين أيدي الخلفاء.
فأبلغ المواعظ كلها كلام الله تعالى الأعز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. قال الله تبارك وتعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
«1» .
وقال جل ثناؤه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
«2» .
وقال: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
«1» .
فهذه أبلغ الحجج وأحكم المواعظ.
ثم مواعظ الأنبياء صلوات الله عليهم، ثم مواعظ الآباء للأبناء، ثم مواعظ الحكماء والأدباء، ثم مقامات العبّاد بين أيدي الخلفاء، ثم قولهم في الزهد ورجاله المعروفين به، ثم المشهورين من المنتسبين إليه.
والموعظة ثقيلة على السمع محرّجة «2» على النفس، بعيدة من القبول، لاعتراضها الشهوة، ومضادّتها الهوى، الذي هو ربيع القلب، ومراد الروح، ومربع اللهو، ومسرح الأماني؛ إلا من وعظه علمه، وأرشده قلبه؛ وأحكمته تجربته قال الشاعر:
لن ترجع الأنفس عن غيّها ... حتى يرى منها لها واعظ
وقالت الحكماء: السعيد من وعظ بغيره. لا يعنون من وعظه غيره، ولكن من رأى العبر في غيره فاتعظ بها في نفسه. ولذلك كان يقول الحسن: اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة «3» ، وحادثوها بالذّكر «4» فإنها سريعة الدثور، واعصوها فإنها إن أطيعت نزعت إلى شرّ غاية.
وكان يقول عند انقضاء مجلسه وختم موعظته: يا لها من موعظة لو صادفت من القلوب حياة.
لابن السماك:
وكان ابن السماك يقول إذا فرغ من كلامه: ألسن تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف.
وقال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا. يريد ثقل الموعظة على السمع،وجنوح النفس إلى مخالفتها. ومنه قولهم:
أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا
وقولهم:
والشيء يرغب فيه حين يمتنع
والموعظة مانعة لك مما تشتهي، حاملة لك على ما تكره، إلا أن تلقاها بسمع قد فتقته العبرة، وقلب قدحت فيه الفكرة، ونفس لها من علمها زاجر، ومن عقلها رادع؛ فيفتح لك باب التوبة، ويوضح لك سبيل الإنابة.
للنبي صلّى الله عليه وسلم:
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات. يريد أن الطريق إلى الجنة احتمال المكروه في الدنيا، والطريق إلى النار ركوب الشهوات.
وخير الموعظة ما كانت من قائل مخلص، إلى سامع منصف.
لبعضهم:
وقال بعضهم: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.
وقالوا: ما أحسن التاج! وهو على رأس الملك أحسن. وما أحسن الدرّ، وهو على نحر الفتاة أحسن. وما أحسن الموعظة! وهي من الفاضل التقيّ أحسن.
لزياد:
وقال زياد: أيها الناس، لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا، أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا. قال الشاعر:
اعمل بقولي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري لابن عباس في كلام لعلي:
وقال عبد الله بن عباس: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما انتفعت بكلام كتبه إليّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، كتب إليّ:
أما بعد: فإن المرء يسرّه إدراك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه. فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من أمر دنياك فلا تكن به فرحا. وما فاتك فلا تأس عليه جزعا. وليكن همك ما بعد الموت.
حكيم بباب بعض الملوك:
وقف حكيم بباب بعض الملوك فحجب، فتلطّف برقعة وأوصلها إليه، وكتب فيها هذا البيت:
ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنّ الغنى يخشى عليه من الفقر
فلما قرأ البيت لم يلبث أن انتعل وجعل لاطئة «1» على رأسه، وخرج في ثوب فضال «2» ، فقال له: والله ما اتعظت بشيء بعد القرآن اتّعاظى ببيتك هذا! ثم قضى حوائجه.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید