المنشورات

مقام رجل من العبّاد عند المنصور

بينما المنصور في الطواف ليلا إذ سمع قائلا يقول اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور، فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلى الرجل ركعتين، واستلم الركن، وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة.
فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض، وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني «3» .
فقال: إن أمّنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجرت منك واقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل. 
قال: فأنت آمن على نفسك فقل. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت. فقال: فكيف ذلك ويحك! يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ قال:
وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجصّ والآجرّ، وأبوابا من الحديد، وحرّاسا معهم السلاح، ثم سجنت نفسك عنهم فيها، وبعثت عمّالك في جباية الأموال وجمعها وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكراع «1» ، وأمرت ألا يدخل عليك أحد من الرجال إلّا فلان وفلان، نفرا سمّيتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الملهوف، ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير إليك، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا دونك، تجبي الأموال وتجمعها. قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه. فائتمروا ألّا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا خوّنوه عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك، لينالوا ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلّم حيل بينك وبينه، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك المتظلم فبلغ بطانتك «2» خبره، سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به «3» ، ويشكو ويستغيث، وهو يدفعه، فإذا أجهد وأحرج ثم ظهرت صرخ بين يديك، فيضرب ضربا مبرحا يكون نكالا «4» لغيره، وأنت تنظر فما تنكر! فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم بسمعه، فبكى بكاء شديدا، فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة، ولكني أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إذ قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلّا متظلّم. ثم كان يركب الفيل طرفي النهار وينظر هل يرى مظلوما، فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله، بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ، وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيّه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس إليه. ولست الذي تعطي، بل الله تعالى يعطي من يشاء ما يشاء. فإن قلت إنما تجمع المال لتشديد السلطان، فقد أراك الله عبرا في بني أمية، ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها. فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين. هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل. فقال المنصور: لا. فقال: فكيف تصنع بالملك الذي خوّلك ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود في العذاب الأليم. قد رأى ما عقد «1» عليه قلبك، وعملته جوارحك «2» ، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه رجلاك. هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب؟ قال: فبكى المنصور، ثم قال:
ليتني لم أخلق! ويحك كيف أحتال لنفسي؟ فقال يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاما يفزعون «3» إليهم في دينهم، ويرضون بهم في دنياهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسدّدوك. قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني. قال: خافوك أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهّل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفىء والصدقات على حلها، واقسمها بالحق والعدل على أهلها، وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة.
وجاء المؤذّنون فآذنوه بالصلاة، فصلى وعاد إلى مجلسه، وطلب الرجل فلم يوجد.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید