المنشورات

مقام الأوزاعي بين يدي المنصور

قال الأوزاعي: دخلت عليه فقال لي: ما الذي بطأ بك عني؟
قلت: وما تريد مني يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الاقتباس منك.
فقلت: يا أمير المؤمنين، انظر ما تقول، فإن مكحولا حدّثني عن عطية بن بسر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «من بلغته عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها من الله بشكر وإلا فهي حجة من الله عليه ليزداد إثما ويزداد الله عليه غضبا وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط ومن كرهه فقد كره الله عز وجل لأن الله هو الحق المبين» .
ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إنك تحمّلت أمانة هذه الأمة وقد عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها. وقد جاء عن جدك عبد الله بن عباس في تفسير قول الله عز وجل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها
«1» قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك. فما ظنك بالقول والعمل؟ فأعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترى أن قرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم تنفعك مع المخالفة لأمره، فقد قال صلّى الله عليه وسلم: «يا صفيّة عمّة محمد، ويا فاطمة بنت محمد، استوهبا أنفسكما من الله، فإني لا أغني عنكما من الله شيئا» . وكذلك جدّك العباس، سأل إمارة من النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أي عمّ نفس تحبيها خير لك من إمارة لا تحصيها؛ نظرا لعمه وشفقة عليه من أن يلي فيحيد عن سنّته جناح بعوضة، فلا يستطيع له نفعا ولا عنه دفعا» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «ما من راع يبيت غاشّا لرعيته إلا حرّم الله عليه رائحة الجنة. وحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرا، ولما استطاع من عوراتهم ساترا، وبالحق فيهم قائما، فلا يتخوّف محسنهم رهقا، ولا مسيئهم عدوانا. فقد كانت بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم جريدة يستاك «1» بها ويردع عنه المشركين بها، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة التي معك! اتركها لا تملأ قلوبهم رعبا! فما ظنك بمن سفك دماءهم، وقطع أستارهم، ونهب أموالهم!» يا أمير المؤمنين، إنّ المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيا لم يتعمده؛ فقال جبريل: يا محمد، إنّ الله لم يبعثك جبارا تكسر قرون أمتك. واعلم يا أمير المؤمنين أن كل ما في يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة، ولا ثمرة من ثمارها؛ ولو أن ثوبا من ثياب أهل الناس علق بين السماء والأرض لأهلك الناس رائحته، فكيف بمن يتقمّصه! ولو أن ذنوبا»
من صديد أهل النار صبّ على ماء الدنيا لأحمّه «3» ، فكيف بمن يتجرّعه! ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لأذابته؛ فكيف بمن يسلك فيها؛ ويردّ فضلها على عاتقه.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید