المنشورات

التوبة

للمسيح عليه السّلام:
مر المسيح بن مريم عليه السّلام بقوم من بني إسرائيل يبكون، فقال لهم: ما يبكيكم؟ قالوا: نبكي لذنوبنا! قال: اتركوها تغفر لكم.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: عجبا لمن يهلك ومعه النجاة؛ قيل له:
وما هي؟ قال: التوبة والاستغفار.
فتى من بني إسرائيل:
وقالوا: كان شاب من بني إسرائيل قد عبد الله عشرين حجة، ثم عصاه عشرين حجّة؛ فبينما هو في بيته يتراءى في مرآته، نظر إلى الشيب في لحيته، فساءه ذلك؛ فقال: إلهي، أطعتك عشرين سنة وعصيتك عشرين سنة؛ فإن رجعت إليك تقبلني؟
فسمع صوتا من زاوية البيت، ولم ير شخصا: أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.
ابن العلاء في عابد:
عبد الله بن العلاء قال: خرجنا حجّاجا من المدينة، فلما كنا بالحليفة نزلنا، فوقف علينا رجل عليه أثواب رثّة له منظر وهيئة، فقال: من يبغي خادما؟ من يبغي ساقيا؟
من يملأ قربة أو إداوة؟ فقلنا: دونك هذه القرب فاملأها. فأخذها وانطلق، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أقبل امتلأت أثوابه طينا، فوضعها وهو كالمسرور الضاحك، ثم قال: لكم غير هذا؟ قلنا: لا. وأطعمناه قارصا حاذرا «1» ، فأخذه وحمد الله وشكره، ثم اعتزل وقعد يأكل أكل جائع، فادركتني عليه الرقة، فقمت إليه بطعام طيب كثير؛ وقلت: قد علمت أنه لم يقع منك القرص موقعا، فدونك هذا الطعام فكله. فنظر في وجهي وتبسم؛ وقال: يا عبد الله، إنما هي فورة، هذه النار قد أطفأتها- وضرب بيده على بطنه- فرجعت وقد انكسف بالي لما رأيت في هيبته؛ فقال إلى رجل كان إلى جانبي: أتعرفه؟ قلت: ما أعرفه. قال: هذا رجل من بني هاشم، من ولد العباس ابن عبد المطلب؛ كان يسكن البصرة؛ فتاب وخرج منها، ففقد وما يعرف له أثر.
فأعجبني قوله؛ ثم لحقت به وناشدته الله؛ وقلت له: هل لك أن تعادلني فإن معي فضلا من راحلتي وأنا رجل من بعض أخوالك؟ فجزاني خيرا، وقال: لو أردت شيئا من هذا لكان لي معدّا. ثم أنس إليّ وجعل يحدثني؛ وقال: أنا رجل من ولد العباس، كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد وجبروت وبذخ؛ وإني أمرت خادما لي أن تحشو لي فراشا من حرير بورد نثير، ومخدّة؛ ففعلت؛ فإني لنائم إذ أيقظني قمع «1» وردة أغفلته الخادم؛ فقمت إليها فأوجعتها ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد أن خرج ذلك القمع من المخدّة؛ فأتاني آت من منامي في صورة فظيعة، فنهرني وزبرني «2» ، وقال: أفق من غشيتك وأبصر من حيرتك. ثم أنشأ يقول:
يا خدّ إنك إن توسّد ليّنا ... وسّدت بعد الموت صمّ الجندل «3»
فامهد لنفسك صالحا تنجو به ... فلتندمنّ غدا إذا لم تفعل
فانتبهت فزعا، وخرجت من ساعتي هاربا بديني إلى ربي.
في التوبة:
وقالوا: علامة التوبة الخروج من الجهل، والندم على الذنب، والتجافي عن الشهوة، وترك الكذب، والانتهاء عن الخلق السوء.
وقالوا: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وأول التوبة الندم.
لابن عبد ربه:
ومن قولنا في هذا المعنى:
يا ويلتا من موقف ما به ... أخوف من أن يعدل الحاكم
أبارز الله بعصيانه ... وليس لي من دونه راحم
يا ربّ غفرانك عن مذنب ... أسرف إلا أنه نادم
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً
«1» . إن التوبة النصوح: أن يتوب العبد عن الذنب ولا ينوي العود إليه.
وقال ابن عباس في قول الله عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ
«2» . إن الرجل لا يركب ذنبا ولا يأتي فاحشة إلا وهو جاهل. وقوله: ثم يتوبون من قريب. قال: كل من كان دون المعاينة فهو قريب، والمعاينة: أن يؤخذ بكظم الإنسان، فذلك قوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ
«3» قال أهل التفسير: هو إذا أخذ بكظمه «4» .
وقال ابن شبرمة: إني لأعجب ممن يحتمي مخافة الضرر، ولا يدع الذنوب مخافة النار.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید