المنشورات

القول عند الموت

الأصمعي عن معتمر عن أبيه؛ قال: لقّنوا موتاكم الشهادة، فإذا قالوها فدعوهم ولا تضجروهم.
وقال الحسن: إذا دخلتم على الرجل في الموت فبشّروه؛ ليلقى ربه وهو حسن الظنّ به؛ وإذا كان حيا فخوفوه.
بين أبي بكر وطلحة:
ولقي أبو بكر طلحة بن عبيد الله، فرآه كاسفا متغيّرا لونه، فقال: مالي أراك متغيرا لونك؟ قال: كلمة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم أسأله عنها. قال: وما ذاك؟ قال: سمعته يقول: «إني أعلم كلمة من قالها عند الموت محصت ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر» . فأنسيت أن أسأله عنها. قال أبو بكر: وأعلّمكها؟ هي: لا إله إلا الله.
لمعاذ في احتضاره:
أبو الحباب قال: لما احتضر معاذ قال لخادمته: ويحك! هل أصبحنا؟ قالت: لا.
ثم تركها ساعة، ثم قال لها: انظري. فقالت: نعم. قال أعوذ بالله من صباح إلى النار! ثم قال: مرحبا بالموت! مرحبا بزائر جاء على فاقة! لا أفلح من ندم: اللهم إنك تعلم أني لم [أكن] أحبّ في الدنيا لكري الأنهار، وغرس الأشجار؛ ولكن لمكابدة الليل الطويل، وظمإ الهواجر في الحرّ الشديد، ومزاحمة العلماء بالرّكب في مجالس الذكر.
لعمر بن عتبة في مثله:
ولما حضرت الوفاة عمر بن عتبة قال لرفيقه: نزل بي الموت ولم أتأهب له! اللهم إنك تعلم أنه ما سنح لي أمران لك في أحدهما رضا ولي في الآخر هوى إلا آثرت رضاك على هواي.
لابن الخطاب في مثله:
ولما حضرت الوفاة عمر بن الخطاب قال لولده عبد الله بن عمر: ضع خدّي على الأرض علّ ربي أن يتعطف عليّ ويرحمني.
للرقاشى في مثله:
ابن السمّاك قال: دخلت على يزيد الرقاشي وهو في الموت. فقال لي: سبقني العابدون وقطع بي؛ والهفاه.
الأسواري وآزاد مرد في احتضاره:
موسى الأسواري قال: دخلت على آزاد مرد وهو ثقيل، فإذا هو كالخفاش لم يبق إلا رأسه؛ فقلت له: يا هذا ما حالك؟ قال: وما حال من يريد سفرا بعيدا بغير زاد، وينطلق إلى ملك عدل بغير حجة، ويدخل قبرا موحشا بغير مؤنس!.
عمر بن عبد العزيز وأبو قلابة:
قال عمر بن عبد العزيز لأبي قلابة وولي غسل ابنه عبد الملك: إذا غسلته وكفنته فآذّني قبل أن تغطي وجهه. ففعل، فنظر إليه وقال: يرحمك الله با بني ويغفر لك.
الحجاج وموت ابنه محمد:
ولما مات محمد بن الحجاج جزع عليه جزعا شديدا، وقال: إذا غسلتموه وكفنتموه فآذنوني. ففعلوا، فنظر إليه وقال متمثلا:
الآن لما كنت أكمل من مشى ... وافتر نابك عن شباة القارح «1»
وتكاملت فيك المروءة كلّها ... وأعنت ذلك بالفعال الصالح
فقيل له: اتق الله واسترجع. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك:
وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك: كيف تجدك يا بنيّ؟ قال: أجدني في الموت فاحتسبني؛ فإن ثواب الله خير لك مني. قال: والله يا بني لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك قال: وأنا والله، لأن يكون ما تحب أحبّ إليّ من أن يكون ما أحب.
مسلمة بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز في احتضاره:
لما احتضر عمر بن عبد العزيز رحمه الله استأذن عليه مسلمة بن عبد الملك، فأذن له وأمره أن يخفف الوقفة؛ فلما دخل وقف عند رأسه فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيرا؛ فلقد ألنت لنا قلوبا كانت علينا قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا.
الرسول صلّى الله عليه وسلم في قبضه:
حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس بن مالك، قال: كانت فاطمة جالسة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فتواكدت «1» عليه كرب الموت؛ فرفع رأسه وقال، واكرباه! فبكت فاطمة وقالت: واكرباه لكربك يا أبتاه! قال، لا كرب على أبيك بعد اليوم!.
الرياشي عن عثمان بن عمر عن إسرائيل عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ما رأيت أحدا من خلق الله أشبه حديثا وكلاما برسول الله صلّى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبلها ورحّب بها وأجلسها في مجلسه؛ وكان إذا دخل عليها قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده فقبلتها. فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه، فأسّر إليها فبكت، ثم أسّر إليها فضحكت، فقلت: كنت أحسب لهذه المرأة فضلا على النساء، فإذا هي واحدة منهنّ؛ بينما هي تبكي إذ هي تضحك! فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم سألتها؛ فقالت: أسّر إليّ فأخبرني أنه ميت فبكيت؛ ثم أسّر إليّ أني أول أهل بيته لحوقا به فضحكت.
عائشة مع أبيها في احتضاره:
القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي مات فيه، فقالت له: يا أبت، اعهد إلي خاصتك، وأنفذ رأيك في عامتك، وانقل من دار جهازك إلى دار مقامك؛ وإنك محضور ومتصل بقلبي لوعتك، وأرى تخاذل أطرافك، وانتقاع لونك؛ فإلى الله تعزيتي عنك، ولديه ثواب حزني عليك، أرقأ فلا أرقأ وأشكو فلا أشكى.
فرفع رأسه فقال: يا بنية، هذا يوم يحلّ فيه عن غطائي؛ وأعاين جزائي، إن فرحا فدائم، وإن نوحا فمقيم؛ إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم، حين كان النكوص إضاعة، والحذر تفريطا؛ فشهيدي الله ما كان بقلبي إلا إياه؛ فتبلّغت بصحفتهم، وتعللت بدرّة لقحتهم، وأقمت صلاي «1» معهم، لا مختالا أشرا، ولا مكابرا بطرا، لم أعد سدّا لجوعة، وتورية لعورة، طوى ممغص تهفو له الأحشاء وتجب له الأمعاء؛ واضطررت إلى ذلك اضطرار الجرض «2» إلى المعيف «3» الآجن، فإذا أنا متّ فردّي إليهم صحفتهم ولقحتهم وعبدهم ورحاهم، ودثارة ما فوقي اتّقيت بها أذى البرد، ودثارة ما تحتى اتقيت بها أذى الأرض، كان حشوهما قطع السعف.
عمر مع أبي بكر في احتضاره:
ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لقد كلفت القوم بعدك تعبا، ووليتهم نصبا. فهيهات من شقّ غبارك! وكيف باللحاق بك.
وقالت عائشة وأبوها يغمّض:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فنظر إليها وقال: ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أغمى عليه فقالت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر
قالت: فنظر إليّ كالغضبان وقال لي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
«1» . ثم قال: انظروا ملاءتيّ فاغسلوهما وكفّنوني فيهما؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
وقال معاوية حين حضرته الوفاة:
ألا ليتني لم أغن في الملك ساعة ... ولم أك في الّلذّات أعشى النّواظر «2»
وكنت كذي طمرين عاش ببلغة ... ليالي حتى زار ضنك المقابر «3»
لما ثقل معاوية ويزيد غائب، أقبل يزيد فوجد عثمان بن محمد بن سفيان جالسا، فأخذ بيده ودخل على معاوية وهو يجود بنفسه، فكلمه يزيد فلم يكلمه، فبكى يزيد، وتضوّر «4» معاوية ساعة، ثم قال: أي بني، إن أعظم ما أخاف الله فيه ما كنت أصنع بك يا بنيّ. إني خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان إذا مضى لحاجته وتوضأ أصب الماء على يديه، فنظر إلى قميص لي قد انخرق من عاتقي، فقال لي: يا معاوية، ألا أكسوك قميصا؟ قلت: بلى. فكساني قميصا لم ألبسه إلا لبسة واحدة، وهو عندي.
واجتزّ ذات يوم فأخذت جزازة شعره، وقلامة أظفاره، فجعلت ذلك في قارورة، فإذا مت يا بني فاغسلني ثم اجعل ذلك الشعر والأظفار في عيني ومنخري وفمي، ثم اجعل قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلم شعارا من تحت كفني. إن نفع شي نفع هذا.
لما احتضر عمرو بن العاص، جمع بنيه فقال: يا بنيّ، ما تغنون عني من أمر الله شيئا! قالوا: يا أبت، إنه الموت، ولو كان غيره لوقيناك بأنفسنا. فقال: أسندوني.
فأسندوه، ثم قال: اللهم إنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أزدجر، اللهم لا قويّ فأنتصر، ولا بريّ فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر! أستغفرك وأتوب إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين! فلم يزل يكررها حتى مات.
قال: وأخبرنا رجال من أهل المدينة أن عمرو بن العاص قال لبنيه عند موته: إني لست في الشّرك الذي لومت عليه أدخلت النار، ولا في الإسلام الذي لو متّ عليه أدخلت الجنة؛ فمهما قصرت فيه فإني مستمسك بلا إله إلا الله. وقبض عليها بيده، وقبض لوقته؛ فكانت يده تفتح ثم تترك، فتنقبض.
وقال لبنيه: إن أنا مت فلا تبكوا عليّ، ولا يتبعني مادح ولا نائح، وشنّوا «1» عليّ التراب شنا، فليس جنبي الأيمن أولى بالتراب من الأيسر؛ ولا تجعلوا في قبري خشبة ولا حجرا، وإذا واريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور «2» . وتفصيلها أستأنس بكم.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید