المنشورات

الوقوف على القبور وما بين الموتى

لأعرابي على قبر الرسول صلّى الله عليه وسلم:
وقف أعرابي على قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: قلت فقبلنا وأمرت فحفظنا، وبلّغت عن ربك فسمعنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً
«1» ، وقد ظلمنا أنفسنا وجئناك فاستغفر لنا. فما بقيت عين إلا سالت.
لفاطمة على قبر أبيها صلّى الله عليه وسلم:
وقفت فاطمة عليها السلام على قبر أبيها صلّى الله عليه وسلم فقالت:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذغبت عنّا الوحي والكتب «2»
فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لمّا نعيت وحالت دونك الكثب
حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: لما فرغنا من دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقبلت عليّ فاطمة، فقالت: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم التراب؟ ثم بكت ونادت: يا أبتاه! أجاب ربّا دعاه؛ يا أبتاه! من ربّه ما أدناه؛ يا أبتاه! من ربّه ناداه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه؛ يا أبتاه! جنّة الفردوس مأواه. قال: ثم سكتت فما زادت شيئا.
ابن مسعود على قبر عمر بن الخطاب:
ولما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أقبل عبد الله بن مسعود وقد فاتته الصلاة عليه؛ فوقف على قبره يبكي ويطرح رداءه؛ ثم قال: والله لئن فاتتني الصلاة عليك لا فاتني حسن الثناء؛ أما والله لقد كنت سخيّا بالحق، بخيلا عن الباطل، ترضى حين الرضا، وتسخط حين السّخط، ما كنت عيّابا ولا مدّاحا؛ فجزاك الله عن الإسلام خيرا.
علي بن أبي طالب على قبر خباب:
ووقف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على قبر خبّاب فقال: رحم الله خبّابا! لقد أسلم راغبا، وجاهد طائعا، وعاش زاهدا، وابتلي في جسمه فصبر؛ ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا.
الحسن على قبر علي:
ولما توفى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، قام الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال: أيها الناس، إنه قبض فيكم الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون ولم يدركه الآخرون، قد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعثه فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، لا ينثني حتى يفتح الله له؛ ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم أعدّها لخادم له.
ابن السماء في رثاء الطائي:
عبد الرحمن بن الحسين عن محمد بن مصعب قال: لما مات داود الطائي تكلم ابن السمّاك فقال: إن داود نظر إلى ما بين يديه من آخرته، فأغشى بصر القلب بصر العين، فكأن لم ينظر ما إليه تنظرون، وكأنكم لم تنظروا إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون وهو منكم يعجب، فلما رآكم مفتونين مغرورين، قد أذهلت الدنيا عقولكم،وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرت إليه حسبته حيا وسط أموات؛ يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك، أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها وأخشنت المطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمتّ نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذّبتها قبل أن تعذب؛ سجنت نفسك في بيتك فلا محدّث لك، ولا جليس معك، ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قلّة يبرّد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك؛ يا داود، ما تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيّبه، ولا من اللباس لينه؛ بلى، ولكن زهدت فيه لما بين يديك؛ فما أصغر ما بذلت وما أحقر ما تركت في جنب ما رغبت وأمّلت، فلما مت شهرك ربّك بفضلك؛ وألبسك رداء عملك، فلو رأيت من حضرك علمت أن ربك قد أكرمك وشرّفك.
للاحنف على قبر أخيه:
وقف الأحنف بن قيس على قبر أخيه فأنشد:
فو الله لا أنسى قتيلا رزئته ... بجانب قوسى ما مشيت على الأرض «1»
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
ووقف محمد بن الحنفية على قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما فخنقته العبرة ثم نطق فقال: يرحمك الله أبا محمد، فلئن عزّت حياتك فلقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء «2» ، غذتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حيّا وطبت ميتا، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة بفراقك، ولا شاكّة في الخيار لك.
عائشة على قبر أبي بكر:
ووقفت عائشة على قبر أبي بكر فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّا بإقبالك عليها ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك- إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك، وحسن العوض منك؛ فأنا أتنجز موعود الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك؛ فعليك السلام ورحمة الله، توديع غير قالية «1» لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك! ثم انصرفت.
رثاء علي لأبي بكر:
لما قبض أبو بكر سجّي بثوب فارتجت المدينة بالبكاء عليه، ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجاء علي بن أبي طالب باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله أبا بكر، كنت والله أوّل القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا. وأشدّهم يقينا، وأعظمهم غناء، وأحفظهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحدبهم «2» على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلّى الله عليه وسلم خلقا وفضلا وهديا وسمتا، فجزاء الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا، صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، سماك الله في كتابه صدّيقا، فقال: «والّذي جاء بالصّدق وصدّق به» يريد محمدا ويريدك، كنت والله للإسلام حصنا، وعلى الكافرين عذابا، لم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت الجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كثيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقويّ عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك.
عبد الملك على قبر معاوية:
وقف عبد الملك بن مروان على قبر معاوية فقال: تالله إن كنت ما علمت لينطقك العلم؛ ويسكنك الحلم. ثم أنشأ يقول:
وما الدهر والأيام إلّا كما ترى ... رزيئة مال أو فراق حبيب
للضحاك في زياد:
الهيثم بن عدي قال: لما هلك زياد استعمل معاوية الضحاك على الكوفة؛ فلما دخلها سأل عن قبر زياد فدلّ عليه؛ فأتاه حتى وقف به ثم قال:
أبا المغيرة والدّنيا مفجّعة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للنكراء تنكير
لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير
والأبيات لحارثة بن بدر يرثي زيادا.
لعلي في فاطمة:
المدائني قال: لما دفن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه فاطمة عليها السلام، تمثل عند قبرها فقال:
لكلّ اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الممات قليل
وإنّ افتقادي واحدا بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم خليل
امرأة الحسن على قبره:
لما مات الحسن بن عليّ عليهما السلام ضربت امرأته فسطاطا على قبره وأقامت حولا ثم انصرفت إلى بيتها؛ فسمعت قائلا يقول: أدركوا ما طلبوا، فأجابه مجيب:
بل ملّوا فانصرفوا.
نائلة على قبر عثمان:
ابن الكلبي قال: وقفت نائلة بنت الفرافصة الكلبية على قبر عثمان فترحمت عليه ثم قالت:
ومالي لا أبكي وتبكي صحابتي ... وقد ذهبت عنا فضول أبي عمرو
ثم انصرفت إلى منزلها، فقالت: إني رأيت الحزن يبلي كما يبلى الثوب، وقد خفت أن يلى حزن عثمان في قلبي! فدعت بفهر «1» فهمشت فاها وقالت: والله لا قعد مني رجل مقعد عثمان أبدا!
الراثون على قبر الإسكندر:
لما هلك الإسكندر: قامت الخطباء على رأسه، فكان من قولهم: الإسكندر كان أمس، أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس!
لأبي العتاهية في ابن له:
أخذ هذا المعنى أبو العتاهية. فقال عند دفنه ولدا له:
كفى حزنا بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديّا
وكنت وفي حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيّا
لأبي ذر في مثله:
وقف أبو ذرّ الهمداني على قبر ابنه ذرّ، فقال: يا ذرّ، شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما قلت وما قيل لك! ثم قال: اللهم إني قد وهبت لك إساءته إليّ، فهب له إساءته إليك! فلما انصرف عنه التفت إلى قبره فقال: يا ذرّ، قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك!
لابن سليمان في مثله:
وقف محمد بن سليمان على قبر ابنه فقال: اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه؛ فحقق رجائي وآمن خوفي.
لأعرابية في أبيها:
وقفت أعرابية على قبر أبيها فقالت: يا أبت، إنّ في الله تبارك وتعالى من فقدك عوضا، وفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة. ثم قالت: اللهم نزل بك عبدك مقفرا من الزاد، مخشوشن المهاد، غنيا عما في أيدي العباد، فقيرا إلى ما في يديك يا جواد، وأنت أي ربّ خير من نزل به المؤمّلون، واستغنى بفضله المقلّون، وولج في سعة رحمته المذنبون؛ اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك. ثم انصرفت.
لأعرابية في رثاء ابنتها:
قال عبد الرحمن بن عمر: دخلت على امرأة من نجد بأعلى الأرض في خباءلها، وبين يديها بنيّ لها قد نزل به الموت، فقامت إليه فأغمضته وعصبته وسجّته، وقالت:
يا بن أخي. قلت: ما تشائين؟ قالت: ما أحق من ألبس النعمة، وأطيلت به النظرة، أن لا يدع التوثق من نفسه قبل حل عقدته، والحلول بعفو ربه، والمحالة بينه وبين نفسه! قال: وما يقطر من عينها دمعة، صبرا واحتسابا. ثم نظرت إليه فقالت: والله ما كان ماله لبطنه، ولا أمره لعرسه. ثم أنشدت.
رحيب الذراع بالتي لا تشينه ... وإن كانت الفحشاء بها ذرعا
عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه:
وقف عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك فقال: رحمك الله يا بنيّ، فلقد كنت سارّا مولودا، بارّا ناشئا، وما أحب أني دعوتك فأجبتني!
ابن ذر جنازة جار له:
توفى رجل كان مسرفا على نفسه بالذنوب، فتجافى الناس جنازته؛ فبلغ عمر بن ذرّ خبره؛ فأوصى إلى أهله أن خذوا في جهازه فإذا فرغتم فآذنوني. ففعلوا، وشهده عمر بن ذرّ وشهده الناس معه، فلما فرغ من دفنه وقف عمر ابن ذرّ على قبره فقال:
يرحمك الله أبا فلان! فلقد صحبت عمرك بالتوحيد، وعفّرت لله وجهك بالسجود، فإن قالوا: مذنب وذو خطايا! فمن منا غير مذنب وغير ذي خطايا!
لجارية على قبر أبيها:
سمع الحسن من جارية واقفة على قبر أبيها وهي تقول: يا أبت مثل يومك لم أره! قال: الذي- والله- لم ير مثل يومه أبوك!
خصي للوليد على قبره:
وسمع عمر بن عبد العزيز خصيّا للوليد بن عبد الملك واقفا على قبر الوليد وهو يقول: يا مولاي، ماذا لقينا بعدك! فقال له عمر: أما والله لو أذن له في الكلام لأخبر أنه لقي بعدكم أكثر مما لقيتم بعده.
معاوية على قبر أخيه:
وقف معاوية على قبر أخيه عتبة فدعا له وترحم عليه، ثم التفت إلى من معه فقال:
لو أن الدنيا بنيت على نسيان الأحبة ما نسيت عتبة أبدا.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید